إبراهيم عليه السلام
الصفحة الرئيسية ] الى الاعلى ]

 

 

إبراهيم عليه السلام

هو أحد أولي العزم الخمسة الكبار الذين اخذ الله منهم ميثاقا غليظا، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.. بترتيب بعثهم. وهو النبي الذي ابتلاه الله ببلاء مبين. بلاء فوق قدرة البشر وطاقة الأعصاب. ورغم حدة الشدة، وعنت البلاء.. كان إبراهيم هو العبد الذي وفى. وزاد على الوفاء بالإحسان.. قال تعالى في سورة (النجم):

وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى

ملخص قصة إبراهيم عليه السلام

‏هو خليل الله، اصطفاه الله برسالته وفضله على كثير من خلقه، كان إبراهيم يعيش في قوم يعبدون الكواكب، فلم يكن يرضيه ذلك، وأحس بفطرته أن هناك إلها أعظم حتى هداه الله واصطفاه برسالته، وأخذ إبراهيم يدعو قومه لوحدانية الله وعبادته ولكنهم كذبوه وحاولوا إحراقه فأنجاه الله من بين أيديهم، جعل الله الأنبياء من نسل إبراهيم فولد له إسماعيل وإسحاق، قام إبراهيم ببناء الكعبة مع إسماعيل.

وقد كرم الله تبارك وتعالى إبراهيم تكريما خاصا، فجعل ملته هي التوحيد الخالص النقي من الشوائب. وجعل العقل في جانب الذين يتبعون دينه. قال تعالى في سورة (البقرة):

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

وأثنى الله سبحانه على إبراهيم فقال في سورة (النحل):

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

وكان من فضل الله على إبراهيم أن جعله الله إماما للناس. وجعل في ذريته النبوة والكتاب. فكل الأنبياء من بعد إبراهيم هم أولاده وأحفاده، وتحقق وعد الله له فلم يبعث بعده نبي إلا جاء من نسله. حتى إذا جاء آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، جاء تحقيقا واستجابة لدعوة إبراهيم التي دعا الله فيها أن يبعث في الأميين رسولا منهم.

ولو مضينا نبحث في فضل إبراهيم وتكريم الله له فسوف نمتلئ بالدهشة. نحن أمام بشر جاء ربه بقلب سليم. إنسان لم يكد الله يقول له أسلم حتى قال أسلمت لرب العالمين. نبي هو أول من سمانا المسلمين. نبي أثمرت دعوته المستجابة عن بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. نبي كان جدا وأبا لكل أنبياء الله الذين جاءوا بعده. نبي هادئ متسامح حليم أواه منيب. قال تعالى في سورة (هود):

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ

وقال في سورة (الصافات):

سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ

يذكر لنا ربنا ذو الجلال والإكرام أمرا آخر أفضل من كل ما سبق. فيقول الله عز وجل في محكم آياته:

وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً

لم يرد في كتاب الله ذكر لنبي، اتخذه الله خليلا غير إبراهيم. قال العلماء: الخُلَّة هي شدة المحبة. وبذلك تعني الآية: واتخذ الله إبراهيم حبيبا. فوق هذه القمة الشامخة يجلس إبراهيم عليه الصلاة والسلام. إن منتهى أمل السالكين، وغاية هدف المحققين والعارفين بالله.. أن يحبوا الله عز وجل. أما أن يحلم أحدهم أن يحبه الله، أن يفرده بالحب، أن يختصه بالخُلَّة وهي شدة المحبة.. فذلك شيء وراء آفاق التصور.

كان إبراهيم هو هذا العبد الرباني الذي استحق أن يتخذه الله خليلا.

لا يتحدث القرآن عن ميلاده أو طفولته، ولا يتوقف عند عصره صراحة، ولكنه يرسم صورة لجو الحياة في أيامه، فتدب الحياة في عصره، وترى الناس قد انقسموا ثلاث فئات:

  • فئة تعبد الأصنام والتماثيل الخشبية والحجرية.
  • وفئة تعبد الكواكب والنجوم والشمس والقمر.
  • وفئة تعبد الملوك والحكام.

وفي هذا الجو ولد إبراهيم. ولد في أسرة من أسر ذلك الزمان البعيد. لم يكن رب الأسرة كافرا عاديا من عبدة الأصنام، كان كافرا متميزا يصنع بيديه تماثيل الآلهة.

قيل أن أباه مات قبل ولادته فرباه عمه، وكان له بمثابة الأب، وكان إبراهيم يدعوه بلفظ الأبوة، وقيل أن أباه لم يمت وكان آزر هو والده حقا، وقيل أن آزر اسم صنم اشتهر أبوه بصناعته.. ومهما يكن من أمر فقد ولد إبراهيم في هذه الأسرة.

رب الأسرة أعظم نحات يصنع تماثيل الآلهة. ومهنة الأب تضفي عليه قداسة خاصة في قومه، وتجعل لأسرته كلها مكانا ممتازا في المجتمع. هي أسرة مرموقة، أسرة من الصفوة الحاكمة.

من هذه الأسرة المقدسة، ولد طفل قدر له أن يقف ضد أسرته وضد نظام مجتمعه وضد أوهام قومه وضد ظنون الكهنة وضد العروش القائمة وضد عبدة النجوم والكواكب وضد كل أنواع الشرك باختصار. وكان طبيعيا أن يكون جزاؤه الإلقاء في النار حيا.

لا نريد أن نسبق الأحداث. لنبدأ معه منذ طفولته:

كان عقله مضيئا منذ طفولته. أضاء الله قلبه وعقله وآتاه الحكمة منذ طفولته. أدرك إبراهيم وهو طفل أن أباه يصنع تماثيل غريبة. وسأله يوما عما يصنع، فأخبره أنها تماثيل الآلهة، ودهش إبراهيم وأحس داخل عقله بالرفض. كان يلعب وهو طفل بهذه التماثيل ويمتطي ظهورها مثلما يمتطي الناس ظهور الحمير والبغال. وشاهده أبوه يوما يركب ظهر أحد تمثال، وغضب الأب وأمر ابنه ألا يلعب بهذا التمثال مرة ثانية.

سأل إبراهيم: أي تمثال هذا يا أبي..؟ إن أذنيه كبيرتان.. أكبر من آذاننا. قال أبوه: انه مردوخ رب الأرباب يا ولدي، وهاتان الأذنان الكبيرتان ترمزان إلى فهمه العميق. ضحك إبراهيم بينه وبين نفسه.. كان عمره سبع سنين.

يحدثنا القديس برنابا على لسان عيسى كيف سخر إبراهيم من أبيه وهو طفل. يقول:

إن إبراهيم سأل والده يوما: من صنع الإنسان يا أبي؟

قال الأب: الإنسان، لأني أنا صنعتك وأبي صنعني.

أجاب إبراهيم: ليس الأمر كذلك يا أبي. لأني سمعت شيخا ينتحب ويقول: يا إلهي.. لماذا لم تعطني أولادا؟

قال الأب: حقا يا بني.. الله يساعد الإنسان ليصنع إنسانا، ولكنه لا يضع يده فيه.

قال إبراهيم: كم إلها هناك يا أبي؟

أجاب الشيخ: لا عدد لهم يا بني.

قال إبراهيم: ماذا أفعل يا أبي إذا خدمت إلها وأراد بي الآخر شرا لأني لم اخدمه؟ ماذا لو وقع شقاق وخصام بين الآلهة؟ ماذا لو قتل الإله الذي يريد بي شرا إلهي؟ ماذا أفعل..؟ من المؤكد أنه يقتلني أنا أيضا.

أجاب الشيخ ضاحكا: لا تخف يا بني لأنه لا يخاصم إله إلها آخر. في الهيكل الكبير ألوف من الآلهة مع الإله الكبير بعل، وقد بلغت الآن سبعين سنة من العمر ومع ذلك لم أر إلها قط ضرب إلها آخر.

قال إبراهيم: إذن يوجد وفاق بينهم.

أجاب أبوه: نعم يوجد.

قال إبراهيم: من أي شيء تصنع الآلهة؟

قال الشيخ: هذا من خشب النخل، وذاك من الزيتون، وذلك التمثال الصغير من العاج. انظر ما أجمله.. حقا لا ينقصه إلا التنفس.

قال إبراهيم: إذا لم يكن للآلهة نفس فكيف يهبون الأنفاس؟ وإذا لم تكن لهم حياة فكيف يعطون الحياة؟ من المؤكد يا أبي إن هؤلاء ليسوا هم الله!

حنق الشيخ لهذا الكلام وقال ثائرا: لو كنت بالغا من العمر ما تتمكن معه من الإدراك لشججت رأسك بهذه الفأس.

قال إبراهيم: يا أبي.. إن كانت الآلهة تساعد على صنع الإنسان فكيف يتأتى للإنسان أن يصنع آلهة؟ إذا كانت الآلهة مصنوعة من الخشب فإن إحراق الخشب خطيئة كبرى. ولكن قل لي يا أبت.. كيف وأنت تساعد الآلهة وتصنع منها أعدادا هائلة.. كيف لم تساعدك الآلهة لتصنع أولادا كثيرين فتصير أقوى رجل في القرية؟

انتهى الحوار بينهما بأن مد الأب يده وضرب إبراهيم.

ومرت الأيام.. وكبر إبراهيم.. كان قلبه يمتلأ من طفولته بكراهية صادقة لهذه التماثيل التي يصنعها والده. لم يكن يفهم كيف يمكن لإنسان عاقل أن يصنع بيديه تمثالا، ثم يسجد بعد ذلك لما صنع بيديه. لاحظ إبراهيم إن هذه التماثيل لا تشرب ولا تأكل ولا تتكلم ولا تستطيع أن تعتدل لو قلبها أحد على جنبها. كيف يتصور الناس أن هذه التماثيل تضر وتنفع؟!

عذبت هذه الفكرة إبراهيم طويلا. أيمكن أن يكون كل قومه على خطأ، وهو وحده على الحق؟ أليس هذا شيئا مدهشا؟

كان لقوم إبراهيم معبد كبير يمتلئ بالتماثيل. وكان في وسط المعبد محراب توضع فيه تماثيل أكبر الآلهة. وكانت الآلهة أنواعا وأصنافا وأشكالا. وكان إبراهيم يزور المعبد مع والده وهو طفل، كان يحس باحتقار عظيم لكل هذه الأخشاب والحجارة. الأمر المدهش هو الناس.. قومه.. كانوا إذا دخلوا خفضوا رؤوسهم وحنوا ظهورهم، وبدءوا يبكون ويتوسلون ويسألونها أشياء كأنها تسمع أو تفهم. في البداية كان هذا المنظر يبدو مضحكا لإبراهيم، ثم بدأ إبراهيم يحس بالغضب. أليس شيئا عجيبا أن يكون كل هؤلاء الناس مخدوعين؟ وزادت المشكلة! إن والد إبراهيم كان يريد أن يكون إبراهيم كاهنا حين يكبر. ولم يكن والد إبراهيم يريد من ابنه شيئا أكثر من أن يحترم هذه التماثيل، غير أن إبراهيم كان لا ينقطع عن التصريح باحتقاره وكراهيته لها.

وذات يوم دخل إبراهيم المعبد مع أبيه. وبدأت الاحتفالات بالتماثيل. ووسط الاحتفال راح كبير الكهنة يوجه الحديث إلى تمثال كبير الآلهة. وكان الكاهن يتحدث بصوت عميق مؤثر ويسأل التمثال أن يرحم قومه ويرزقهم. وخرج صوت إبراهيم في سكون المعبد وهو يخاطب كبير الكهنة: إنه لا يسمعك يا سيدي الكاهن.. ألا تلاحظ انه لا يسمع؟

والتفت الناس لهذا الصبي فوجدوه إبراهيم. شعر كبير الكهنة بالإحراج والغضب، واعتذر الأب مدعيا أن ابنه مريض ولا يعرف ما يقول.. وخرج الاثنان من المعبد، صحب الوالد إبراهيم إلى فراشه وأرقده فيه، وتركه ومضى.

نهض إبراهيم من فراشه، متوجها لأحد كهوف الجبل، وكان متأكدا لدرجة اليقين أنه لا يمكن أن تكون هذه التماثيل الخشبة والحجرية التي يصنعها قومه هي من خلقت هذا الكون ودبرت أموره. نظر إلى السماء. لم يكد ينظر إليها حتى تذكر أنه ينظر لكواكب ونجوم تعبد في الأرض. وامتلأ قلب الفتى الصغير بحزن رحيم كبير.

نظر إلى ما وراء القمر النجوم والكواكب. أدهشه أن يعبدها الناس وهي مخلوقة تعبد خالقها، وتظهر بإذنه وتأفل بإذنه. وأدار إبراهيم بينه وبين نفسه حوارا داخليا، لم يلبث أن مده إلى حوار مع قومه الذين يعبدون هذه الكواكب.

حكى الله تعالى هذه المواقف بقوله تعالى في سورة (الأنعام):

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي

لا يحدثنا القرآن عن الجو الذي أعلن فيه إبراهيم ذلك. غير أننا نحس من سياق الآيات أن هذا الإعلان كان بين قومه، ويبدو أن قومه اطمأنوا له، وحسبوا أنه يرفض عبادة التماثيل ويهوى عبادة الكواكب. وكانت الملاحة حرة بين الوثنيات الثلاث: عبادة التماثيل والنجوم والملوك.

غير أن إبراهيم كان يدخر لقومه مفاجأة مذهلة في الصباح. لقد أفل الكوكب الذي التحق بديانته بالأمس. وإبراهيم لا يحب الآفلين. قال تعالى:

فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي

عاد إبراهيم في الليلة الثانية يعلن لقومه أن القمر ربه. لم يكن قومه على درجة كافية من الذكاء ليدركوا أنه يسخر منهم برفق ولطف وحب. كيف يعبدون ربا يختفي ثم يظهر. يأفل ثم يشرق.. بانتظام يشي بعبوديته لله؟ لم يفهم قومه هذا في المرة الأولى فكرره مع القمر. لكن القمر كالزهرة كأي كوكب آخر.. يظهر ويختفي.. قال تعالى:

فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ

سنلاحظ هنا أنه يحدث قومه عن رفضه لألوهية القمر.. إنه يمزق العقيدة القمرية بهدوء ولطف. كيف يعبد الناس ربا يختفي ويأفل. لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي يفهمهم أن له ربا غير كل ما يعبدون. غير أن اللفتة لا تصل إليهم. ويعاود إبراهيم محاولته في إقامة الحجة على الفئة الأولى من قومه.. عبدة الكواكب والنجوم. قال تعالى:

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

كان تفنيده للعقيدة الشمسية هو ختام جولته مع عبدة الكواكب والنجوم. أعلن أن الشمس ربه لأنها أكبر. سخرية مرت على آذان قومه فلم تلتقطها القلوب الموصدة. لم يفهم عبدة الشمس أنهم يعبدون مخلوقا. لا يغني فيه أنه كبير.. الله أكبر.. بعد أن أعلن إبراهيم أن الشمس ربه، انتظر حتى جاء المغيب، وغربت الشمس. أفلت هي الأخرى مثل كل المعبودات التي تأفل. بعدها أعلن براءته من عبادة النجوم والكواكب. أنهى جولته الأولى بتوجيهه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفا.. ليس مشركا مثلهم.

استطاعت حجة إبراهيم أن تظهر الحق. وبدأ صراع قومه معه. لم يسكت عنه عبدة النجوم والكواكب. بدءوا جدالهم وتخويفهم له وتهديده. ورد إبراهيم عليهم قال:

أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

لا نعرف رهبة الهجوم عليه. ولا حدة الصراع ضده، ولا أسلوب قومه الذي اتبعه معه لتخويفه. تجاوز القرآن هذا كله إلى رده هو. كان جدالهم باطلا فأسقطه القرآن من القصة، وذكر رد إبراهيم المنطقي العاقل. كيف يخوفونه ولا يخافون هم؟ أي الفريقين أحق بالأمن؟

الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ

بعد أن بين إبراهيم عليه السلام حجته لفئة عبدة النجوم والكواكب، استعد لتبيين حجته لعبدة الأصنام. آتاه الله الحجة في المرة الأولى كما سيؤتيه الحجة في كل مرة.

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

سبحانه.. كان يؤيد إبراهيم ويريه ملكوت السماوات والأرض. لم يكن معه غير إسلامه حين بدأ صراعه مع عبدة الأصنام. هذه المرة يأخذ الصراع شكلا أعظم حدة. أبوه في الموضوع.. هذه مهنة الأب وسر مكانته وموضع تصديق القوم.. وهي العبادة التي تتبعها الأغلبية.

خرج إبراهيم على قومه بدعوته. قال بحسم غاضب وغيرة على الحق:

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ

انتهى الأمر وبدأ الصراع بين إبراهيم وقومه.. كان أشدهم ذهولا وغضبا هو أباه أو عمه الذي رباه كأب.. واشتبك الأب والابن في الصراع. فصلت بينهما المبادئ فاختلفا.. الابن يقف مع الله، والأب يقف مع الباطل.

قال الأب لابنه: مصيبتي فيك كبيرة يا إبراهيم.. لقد خذلتني وأسأت إلي.

قال إبراهيم:

يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا

انتفض الأب واقفا وهو يرتعش من الغضب. قال لإبراهيم وهو ثائر:

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا

إذا لم تتوقف عن دعوتك هذه فسوف أرجمك، سأقتلك ضربا بالحجارة. هذا جزاء من يقف ضد الآلهة.. اخرج من بيتي.. لا أريد أن أراك.. اخرج.

انتهى الأمر وأسفر الصراع عن طرد إبراهيم من بيته. كما أسفر عن تهديده بالقتل رميا بالحجارة. رغم ذلك تصرف إبراهيم كابن بار ونبي كريم. خاطب أباه بأدب الأنبياء. قال لأبيه ردا على الإهانات والتجريح والطرد والتهديد بالقتل:

قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا

وخرج إبراهيم من بيت أبيه. هجر قومه وما يعبدون من دون الله. وقرر في نفسه أمرا. كان يعرف أن هناك احتفالا عظيما يقام على الضفة الأخرى من النهر، وينصرف الناس جميعا إليه. وانتظر حتى جاء الاحتفال وخلت المدينة التي يعيش فيها من الناس.

وخرج إبراهيم حذرا وهو يقصد بخطاه المعبد. كانت الشوارع المؤدية إلى المعبد خالية. وكان المعبد نفسه مهجورا. انتقل كل الناس إلى الاحتفال. دخل إبراهيم المعبد ومعه فأس حادة. نظر إلى تماثيل الآلهة المنحوتة من الصخر والخشب. نظر إلى الطعام الذي وضعه الناس أمامها كنذور وهدايا. اقترب إبراهيم من تمثال لأحد الآلهة وسأله: لقد برد الطعام أمامك.. لماذا لا تأكل؟

وظل التمثال صامتا جامدا.. وسأل إبراهيم عددا من التماثيل حوله:

أَلَا تَأْكُلُونَ

كان يسخر منهم ويعرف أنهم لا يأكلون. وعاد يسأل التماثيل:

مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ

ثم هوى بفأسه على الآلهة.

فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ

وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة.. إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم (لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار الآلهة! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها، فيرجعون إلى صوابهم، ويدركون لم يرجعوا إليه يسألونه ولا إلى أنفسهم يسألونها: إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئا. وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها؟ لم يسألوا أنفسم هذا السؤال، لأن الخرافة قد عطلت عقولهم عن التفكير، ولأن التقليد قد غل أفكارهم عن التأمل والتدبر. فإذا هم يدعون هذا السؤال الطبيعي لينقموا على من حطم آلهتهم، وصنع بها هذا الصنيع: قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ

عندئذ تذكر الذين سمعوا إبراهيم ينكر على أبيه ومن معه عبادة التماثيل، ويتوعدهم أن يكيد لآلهتهم بعد انصرافهم عنها!

قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ

وقد قصدوا إلى التشهير به، وإعلان فعلته على رؤوس الأشهاد!

قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ

فهم ما يزالون يصرون على أنها آلهة وهي جداد مهشمة. فأما إبراهيم فهو يتهكم بهم ويسخر منهمن وهو فرد وحده وهم كثر. ذلك أنه ينظر بعقله المفتوح وقلبه الواصل فلا يملك إلا أن يهزأ بهم ويسخر، وأن يجيبهم إجابة تناسب هذا الستوى العقلي الدون:

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ

والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر. فلا داعي لتسمية هذه ذبة من إبراهيم -عليه السلام- والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون. فالأمر أيسر من هذا بكثير! إنما أراد أن يقول لهم: إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت انا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا. فهي جماد لا إدراك له أصلا. وانتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل. فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أن أن هذا التمثال هو الذي حطمها! فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ

ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا، وردهم إلى شيء من التدبر التفكر:

فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ

وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخفن وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم. وان تتفتح بصيرتهم لأول مرة فيتدبروا ذلك السخف االذي يأخذون به أنفسهم، وذلك الظلم الذي هم فيه سادرون. ولكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام، وإلا حفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود:

ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ

وحقا كانت الأولى رجعة إلى النفوس، وكانت الثانية نكسة على الرؤوس؛ كما يقول التعبير القرآني المصور العجيب.. كانت الاولى حركة في النفس للنظر والتدبر. أما الثانية فكانت انقلابا على الرأس فلا عقل ولا تفكير. وإلا فإن قولهم هذا الاخير هو الحجة عليهم. وأية حجة لإبراهيم أقوى من أن هؤلاء لا ينطقون؟

ومن ثم يجيبهم بعنف وضيق على غير عادته وهو الصبور الحليم. لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم:

قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ

 

وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدرن وغيظ النفس، والعجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف.

عند لك أخذتهم لعزة بالإثم كما تأخذ الطغاة دائما حين يفقدون الحجة ويعوزهم الدليل، فيلجأون إلى القوة الغاشمة والعذاب الغليظ:

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ

أجمل الله تعالى في سورة (الأنبياء) هذه المشاهد. قال تعالى:

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ

وفعلا.. بدأ الاستعداد لإحراق إبراهيم. انتشر النبأ في المملكة كلها. وجاء الناس من القرى والجبال والمدن ليشهدوا عقاب الذي تجرأ على الآلهة وحطمها واعترف بذلك وسخر من الكهنة. وحفروا حفرة عظيمة ملئوها بالحطب والخشب والأشجار. وأشعلوا فيها النار. وأحضروا المنجنيق وهو آلة جبارة ليقذفوا إبراهيم فيها فيسقط في حفرة النار.. ووضعوا إبراهيم بعد أن قيدوا يديه وقدميه في المنجنيق. واشتعلت النار في الحفرة وتصاعد اللهب إلى السماء. وكان الناس يقفون بعيدا عن الحفرة من فرط الحرارة اللاهبة. وأصدر كبير الكهنة أمره بإطلاق إبراهيم في النار.

جاء جبريل عليه السلام ووقف عند رأس إبراهيم وسأله: يا إبراهيم.. ألك حاجة؟

قال إبراهيم: أما إليك فلا.

انطلق المنجنيق ملقيا إبراهيم في حفرة النار. كانت النار موجودة في مكانها، ولكنها لم تكن تمارس وظيفتها في الإحراق. فقد أصدر الله جل جلاله إلى النار أمرا. قال تعالى:

قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ

أطاعت النار فكانت (بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ). أحرقت قيوده فقط. وجلس إبراهيم وسطها كأنه يجلس وسط حديقة. كان يسبح بحمد ربه ويمجده. لم يكن في قلبه مكان خال يمكن أن يمتلئ بالخوف أو الرهبة أو الجزع. كان القلب مليئا بالحب وحده. ومات الخوف. وتلاشت الرهبة. واستحالت النار إلى سلام بارد يلطف عنه حرارة الجو.

جلس الدهماء والكبار والكهنة يرقبون النار من بعيد. كانت حرارتها تدفع في وجوههم صهدا حارقا تكاد تزهق أرواحهم. وظلت النار تشتعل فترة طويلة حتى ظن الكافرون أنها لن تنطفئ أبدا. فلما انطفأت فوجئوا بإبراهيم يخرج من الحفرة سليما كما دخل. وجوههم مسودة من دخان الحريق، ووجهه يتلألأ بالنور والجلال. ثيابهم احترق نصفها بسبب ما تساقط عليها من الأخشاب الملتهبة، وثيابه كما هي لم تحترق. عليهم أثر الدخان والحريق، وليس عليه أي اثر للدخان أو الحريق.

خرج إبراهيم من النار كما لو كان يخرج من حديقة. وتصاعدت صيحات الدهشة الكافرة. خسروا جولتهم خسارة مريرة وساخرة.

وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ

لا يحدثنا القرآن الكريم عن عمر إبراهيم حين حطم أصنام قومه، لا يحدثنا عن السن التي كلف فيها بالدعوة إلى الله.

ويبدو من استقراء النصوص القديمة أن إبراهيم كان شابا صغيرا حين فعل ذلك، بدليل قول قومه عنه.

سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ

وكلمة الفتى تطلق على السن التي تسبق العشرين.

ويحدثنا القديس برنابا في إنجيله إن إبراهيم حطم الأصنام قبل أن يكلفه الله تعالى بالدعوة. يقول برنابا في الفصل التاسع والعشرين:

إن إبراهيم سمع صوتا يناديه. سأل إبراهيم: من يناديني؟

حينئذ سمع قائلا يقول: "أنا ملاك الله جبريل".

فارتاع إبراهيم ولكن الملاك سكن روعه قائلا: لا تخف يا إبراهيم لأنك خليل الله، فإنك لما حطمت آلهة الناس تحطيما اصطفاك إله الملائكة والأنبياء حتى إنك كتبت في سفر الحياة.

وتمضي كلمات برنابا فيقول: إن إبراهيم تساءل ماذا يفعل ليعبد إله الملائكة والأنبياء؟ وأجابه جبريل أن يذهب لهذا الينبوع ويغتسل ويصعد الجبل ليكلمه الله تعالى.

وارتقى إبراهيم الجبل وجثا على ركبتيه وناداه الله تعالى.. أجاب إبراهيم: من يناديني؟

قال الله تعالى: أنا ألهك يا إبراهيم.

وارتاع إبراهيم وسجد على الأرض معفرا وجهه، وهو يقول: كيف يصغي عبدك إليك يا رب وهو تراب ورماد؟ هنالك يأمره الله تعالى أن ينهض لأنه اصطفاه عبدا له، وباركه هو ومن يتبعه.

هذه الرواية تحدد زمن اصطفاء إبراهيم وتكليفه بالنبوة بعد تحطيمه لعبادة الأصنام والكواكب. ولعل هذه اللحظات المضيئة التي تجلى فيها الحق تبارك وتعالى على عبده إبراهيم هي التي تحدث عنها القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة (البقرة):

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ

وعلى أية حال، فان زمن اصطفاء الله تعالى لإبراهيم غير محدد في القرآن. وبالتالي فنحن لا نستطيع أن نقطع فيه بجواب نهائي. كل ما نستطيع أن نقطع فيه برأي، أن إبراهيم أقام الحجة على عبدة التماثيل بشكل قاطع، كما أقامها على عبدة النجوم والكواكب من قبل بشكل حاسم، ولم يبق إلا أن تقام الحجة على الملوك المتألهين وعبادهم.. وبذلك تقوم الحجة على جميع الكافرين.

لنقرأ معا تفاصيل جولته الثالثة مع عبدة الملوك.

واجه إبراهيم ملِكا يعتقد أنه إله. يحكي لنا الله تعالى في سورة (البقرة) فيقول:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

تجاوز الله تعالى اسم الملك لانعدام أهميته، لكن روي أن الملك المعاصر لإبراهيم كان يلقب (بالنمرود) وهو ملك الآراميين بالعراق. كما تجاوز حقيقة مشاعره، كما تجاوز الحوار الطويل الذي دار بين إبراهيم وبينه.

كان الملك مصابا بكبرياء الملك ومرض الغرور، وكان استسلام الناس له يزيد من إحساسه بالكبرياء والغرور. استمع إبراهيم إلى الملك وأدرك كل شيء. وقال إبراهيم بهدوء: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ

قال الملك: أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ

لم يتساءل إبراهيم كيف يحيي الملك ويميت.. كان يعرف أنه كاذب.

عاد الملك يقول: أستطيع أن احضر رجلا يسير في الشارع واقتله، وأستطيع أن أعفو عن محكوم عليه بالإعدام وأنجيه من الموت.. وبذلك أكون قادرا على الحياة والموت.

ابتسم إبراهيم لسذاجة ما يقوله الملك.. وأحس بالحزن في نفسه. غير أنه أراد أن يثبت للملك أنه يتوهم في نفسه القدرة وهو في الحقيقة ليس قادرا. 

قال إبراهيم: فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ

استمع الملك إلى تحدي إبراهيم صامتا.. فلما انتهى كلام النبي بهت الملك. أحس بالعجز ولم يستطع أن يجيب. لقد أثبت له إبراهيم أنه كاذب.. قال له إن الله يأتي بالشمس من المشرق، فهل يستطيع هو أن يأتي بها من المغرب.. إن للكون نظما وقوانين يمشي طبقا لها.. قوانين خلقها الله ولا يستطيع أي مخلوق أن يتحكم فيها. ولو كان الملك صادقا في ادعائه الألوهية فليغير نظام الكون وقوانينه.. ساعتها أحس الملك بالعجز.. وأخرسه التحدي. ولم يعرف ماذا يقول، ولا كيف يتصرف. انصرف إبراهيم من قصر الملك، بعد أن بهت الذي كفر.

انطلقت شهرة إبراهيم في المملكة كلها. تحدث الناس عن معجزته ونجاته من النار، وتحدث الناس عن موقفه مع الملك وكيف أخرس الملك فلم يعرف ماذا يقول. واستمر إبراهيم في دعوته لله تعالى.. بذل جهده ليهدي قومه، حاول إقناعهم بكل الوسائل، ورغم حبه لهم وحرصه عليهم فقد غضب قومه وهجروه، ولم يؤمن معه من قومه سوى امرأة ورجل واحد.. امرأة تسمى سارة، وقد صارت فيما بعد زوجته، ورجل هو لوط، وقد صار نبيا فيما بعد. وحين أدرك إبراهيم أن أحدا لن يؤمن بدعوته.. قرر الهجرة. قبل أن يهاجر، دعا والده للإيمان، ثم تبين لإبراهيم أن والده عدو لله، وانه لا ينوي الإيمان، فتبرأ منه وقطع علاقته به.

للمرة الثانية في قصص الأنبياء نصادف هذه المفاجأة.. في قصة نوح كان الأب نبيا والابن كافرا، وفي قصة إبراهيم كان الأب كافرا والابن نبيا، وفي القصتين نرى المؤمن يعلن براءته من عدو الله رغم كونه ابنه أو والده، وكأن الله يفهمنا من خلال القصة أن العلاقة الوحيدة التي ينبغي أن تقوم عليها الروابط بين الناس، هي علاقة الإيمان لا علاقة الميلاد والدم. قال تعالى في سورة (التوبة):

وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ

خرج إبراهيم عليه السلام من بلده وبدأ هجرته. سافر إلى مدينة تدعى أور.. ومدينة تسمى حاران.. ثم رحل إلى فلسطين ومعه زوجته، المرأة الوحيدة التي آمنت به.. وصحب معه لوطا.. الرجل الوحيد الذي آمن به.

قال تعالى في سورة (العنكبوت):

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

بعد فلسطين ذهب إبراهيم إلى مصر.. وطوال هذا الوقت وخلال هذه الرحلات كلها، كان يدعو الناس إلى عبادة الله، ويحارب في سبيله، ويخدم الضعفاء والفقراء، ويعدل بين الناس، ويهديهم إلى الحقيقة والحق.

وكانت زوجته سارة لا تلد.. وكان ملك مصر قد أهداها سيدة مصرية لتكون في خدمتها، وكان إبراهيم قد صار شيخا، وابيض شعره من خلال عمر أبيض أنفقه في الدعوة إلى الله، وفكرت سارة إنها وإبراهيم وحيدان، وهي لا تنجب أولادا، ماذا لو قدمت له السيدة المصرية لتكون زوجة لزوجها؟ وكان اسم المصرية "هاجر". وهكذا زوجت سارة سيدنا إبراهيم من هاجر، وولدت هاجر ابنها الأول فأطلق والده عليه اسم "إسماعيل".

وتأتي بعض الروايات لتبين قصة إبراهيم عليه السلام وزوجته سارة وموقفهما مع ملك مصر. فتقول:

وصلت الأخبار لملك مصر بوصول رجل لمصر معه أمرأة هي أجمل نساء الأرض. فطمع بها. وأرسل جنوده ليأتونه بهذه المرأة. وأمرهم بأن يسألوا عن الرجل الذي معها، فإن كان زوجها فليقتلوه. فجاء الوحي لإبراهيم عليه السلام بذلك. فقال إبراهيم -عليه السلام- لسارة إن سألوك عني فأنت أختي -أي أخته في الله-، وقال لها ما على هذه الأرض مؤمن غيري وغيرك -فكل أهل مصر كفرة، ليس فيها موحد لله عز وجل. فجاء الجنود وسألوا إبراهيم: ما تكون هذه منك؟ قال: أختي.

لنقف هنا قليلا.. قال إبراهيم حينما قال لقومه (إني سقيم) و (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوه) و (هي أختي). كلها كلمات تحتمل التاويل. لكن مع هذا كان إبراهيم عليه السلام خائفا جدا من حساه على هذه الكلمات يوم القيام. فعندما يذهب البشر له يوقم القيامة ليدعوا الله أن يبدأ الحساب يقول لهم لا إني كذب على ربي ثلاث مرات.

ونجد أن البشر الآن يكذبون أمام الناس من غير استحياء ولا خوف من خالقهم.

لما عرفت ساة أن ملك مصر فاجر ويريدها له أخذت تدعوا الله قائلة: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلى على زوجي فلا تسلط علي الكافر.

فلما أدخلوها عليه. مد يده إليها ليلمسها فشلّ وتجمدت يده في مكانها، فبدأ بالصراخ لأنه لم يعد يستطيع تحريكها، وجاء أعوانه لإنقاذهم لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء. فخافت سارة على نفسها أن يقتلوها بسبب ما فعلته بالملك. فقالت: يا رب اتركه لا يقتلوني به. فاستجاب الله لدعائها.

لكن الملك لم يتب وظن أن ما حدث كان أمرا عابرا وذهب. فهجم عليها مرة أخرى. فشلّ مرة ثانية. فقال: فكيني. فدعت الله تعالى ففك. فمد يده ثالثة فشلّ. فقال: فكيني وأطلقك وأكرمك. فدعت الله سبحانه وتعالى ففك. فخرص الملك بأعوانه: أبعدوها عني فإنمك لم تأتوني بإنسان بل أتيتموني بشيطان.

فأطلقها وأعطاها شيئا من الذهب، كما أعطاها أمة اسمها "هاجر".

هذه الرواية مشهورة عن دخول إبراهيم -عليه السلام- لمصر

كان إبراهيم شيخا حين ولدت له هاجر أول أبنائه إسماعيل.

عاش إبراهيم في الأرض قلبا يعبد الله ويسبح بحمده ويقدس به.

ولسنا نعرف أبعاد المسافات التي قطعها إبراهيم في رحلته إلى الله.. كان دائما هو المسافر إلى الله.. سواء استقر به المقام في بيته أو حملته خطواته سائحا في الأرض. مسافر إلى الله يعلم إنها أيام على الأرض وبعدها يجيء الموت ثم ينفخ في الصور وتقوم قيامة الأموات ويقع البعث

ملأ اليوم الآخر قلب إبراهيم بالسلام والحب واليقين. وأراد أن يرى يوما كيف يحيي الله عز وجل الموتى .. حكى الله هذا الموقف في سورة (البقرة).. قال تعالى:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي

لا تكون هذه الرغبة في طمأنينة القلب مع الإيمان إلا درجة من درجات الحب لله.

قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

فعل إبراهيم ما أمره به الله. ذبح أربعة من الطير وفرق أجزاءها على الجبال.. ودعاها باسم الله فنهض الريش يلحق بجناحه، وبحثت الصدور عن رؤوسها، وتطايرت أجزاء الطير مندفعة نحو الالتحام، والتقت الضلوع بالقلوب، وسارعت الأجزاء الذبيحة للالتئام، ودبت الحياة في الطير، وجاءت طائرة مسرعة ترمي بنفسها في أحضان إبراهيم. اعتقد بعض المفسرين إن هذه التجربة كانت حب استطلاع من إبراهيم. واعتقد بعضهم أنه أراد أن يرى يد ذي الجلال الخالق وهي تعمل، فلم ير الأسلوب وإن رأى النتيجة. واعتقد بعض المفسرين أنه اكتفى بما قاله له الله ولم يذبح الطير. ونعتقد أن هذه التجربة كانت درجة من درجات الحب قطعها المسافر إلى الله.. إبراهيم.

استيقظ إبراهيم يوما فأمر زوجته هاجر أن تحمل ابنها وتستعد لرحلة طويلة. وبعد أيام بدأت رحلة إبراهيم مع زوجته هاجر ومعهما ابنهما إسماعيل. وكان الطفل رضيعا لم يفطم بعد. وظل إبراهيم يسير وسط أرض مزروعة تأتي بعدها صحراء تجيء بعدها جبال.. حتى دخل إلى صحراء الجزيرة العربية، وقصد إبراهيم واديا ليس فيه زرع ولا ثمر ولا شجر ولا طعام ولا مياه ولا شراب. كان الوادي يخلو تماما من علامات الحياة. وصل إبراهيم إلى الوادي، وهبط من فوق ظهر دابته. وأنزل زوجته وابنه وتركهما هناك، ترك معهما جرابا فيه بعض الطعام، وقليلا من الماء لا يكفي يومين. ثم استدار وتركهما وسار.

أسرعت خلفه زوجته وهي تقول له: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه شيء؟

لم يرد عليها سيدنا إبراهيم.. ظل يسير.. عادت تقول له ما قالته وهو صامت.. أخيرا فهمت أنه لا يتصرف هكذا من نفسه.. أدركت أن الله أمره بذلك وسألته: هل الله أمرك بهذا؟ قال إبراهيم عليه السلام: نعم.

قالت زوجته المؤمنة العظيمة: لن نضيع ما دام الله معنا وهو الذي أمرك بهذا. وسار إبراهيم حتى إذا أخفاه جبل عنهما وقف ورفع يديه الكريمتين إلى السماء وراح يدعو الله:

رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ

لم يكن بيت الله قد أعيد بناؤه بعد، لم تكن الكعبة قد بنيت، وكانت هناك حكمة عليا في هذه التصرفات الغامضة، فقد كان إسماعيل الطفل الذي ترك مع أمه في هذا المكان، كان هذا الطفل هو الذي سيصير مسؤولا مع والده عن بناء الكعبة فيما بعد.. وكانت حكمة الله تقضي أن يمتد العمران إلى هذا الوادي، وأن يقام فيه بيت الله الذي نتجه جميعا إليه أثناء الصلاة بوجوهنا.

ترك إبراهيم زوجته وابنه الرضيع في الصحراء وعاد راجعا إلى كفاحه في دعوة الله.. أرضعت أم إسماعيل ابنها وأحست بالعطش. كانت الشمس ملتهبة وساخنة وتثير الإحساس بالعطش. بعد يومين انتهى الماء تماما، وجف لبن الأم.. وأحست هاجر وإسماعيل بالعطش.. كان الطعام قد انتهى هو الآخر.. وبدا الموقف صعبا وحرجا للغاية.

بدأ إسماعيل يبكي من العطش.. وتركته أمه وانطلقت تبحث عن ماء.. راحت تمشي مسرعة حتى وصلت إلى جبل اسمه "الصفا".. فصعدت إليه وراحت تبحث بهما عن بئر أو إنسان أو قافلة.. لم يكن هناك شيء. ونزلت مسرعة من الصفا حتى إذا وصلت إلى الوادي راحت تسعى سعي الإنسان المجهد حتى جاوزت الوادي ووصلت إلى جبل "المروة"، فصعدت إليه ونظرت لترى أحدا لكنها لم تر أحدا. وعادت الأم إلى طفلها فوجدته يبكي وقد اشتد عطشه.. وأسرعت إلى الصفا فوقفت عليه، وهرولت إلى المروة فنظرت من فوقه.. وراحت تذهب وتجيء سبع مرات بين الجبلين الصغيرين.. سبع مرات وهي تذهب وتعود.. ولهذا يذهب الحجاج سبع مرات ويعودون بين الصفا والمروة إحياء لذكريات أمهم الأولى ونبيهم العظيم إسماعيل. عادت هاجر بعد المرة السابعة وهي مجهدة متعبة تلهث.. وجلست بجوار ابنها الذي كان صوته قد بح من البكاء والعطش.

وفي هذه اللحظة اليائسة أدركتها رحمة الله، وضرب إسماعيل بقدمه الأرض وهو يبكي فانفجرت تحت قدمه بئر زمزم.. وفار الماء من البئر.. أنقذت حياتا الطفل والأم.. راحت الأم تغرف بيدها وهي تشكر الله.. وشربت وسقت طفلها وبدأت الحياة تدب في المنطقة.. صدق ظنها حين قالت: لن نضيع ما دام الله معنا.

وبدأت بعض القوافل تستقر في المنطقة.. وجذب الماء الذي انفجر من بئر زمزم عديدا من الناس.. وبدأ العمران يبسط أجنحته على المكان.

وكبر إسماعيل.. وتعلق به قلب إبراهيم.. جاءه العقب على كبر فأحبه.. وابتلى الله تعالى إبراهيم بلاء مبينا بسبب هذا الحب. حكى الله تبارك وتعالى موقف ابتلاء إبراهيم في سورة (الصافات).. قال عز وجل:

وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) َنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ 

انظر كيف يختبر الله عباده. تأمل أي نوع من أنواع الاختبار. نحن أمام نبي قلبه أرحم قلب في الأرض. اتسع قلبه لحب الله وحب من خلق. جاءه ابن على كبر.. وقد طعن هو في السن ولا أمل هناك في أن ينجب. ثم ها هو ذا يستسلم للنوم فيرى في المنام أنه يذبح ابنه وبكره ووحيده الذي ليس له غيره.

أي نوع من الصراع نشب في نفسه. يخطئ من يظن أن صراعا لم ينشأ قط. لا يكون بلاء مبينا هذا الموقف الذي يخلو من الصراع. نشب الصراع في نفس إبراهيم.. صراع أثارته عاطفة الأبوة الحانية. فكر إبراهيم لماذا.. وجاءه الجواب أنه هكذا أراه الله.. ورؤيا الأنبياء حق.. لقد رأى نفسه في المنام يذبح ولده الوحيد.. هذا وحي من الله أن يذبح ولده الوحيد.

لماذا..؟ أزاحها إبراهيم من تفكيره.. ليس إبراهيم هو الذي يسأل الله لماذا أو لأي سبب.. فكر إبراهيم في ولده.. ماذا يقول عنه إذا أرقده على الأرض ليذبحه.. الأفضل أن يقول لولده ليكون ذلك أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قهرا ويذبحه قهرا. هذا أفضل.. انتهى الأمر وذهب إلى ولده:

قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى

انظر إلى تلطفه في إبلاغ ولده، وترك الأمر لينظر فيه الابن بالطاعة.. إن الأمر مقضي في نظر إبراهيم لأنه وحي من ربه.. فماذا يرى الابن الكريم في ذلك؟ أجاب إسماعيل بن إبراهيم جواب إبراهيم. هذا أمر يا أبي فبادر بتنفيذه:

يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ

تأمل رد الابن.. إنسان يعرف أنه سيذبح فيمتثل للأمر الإلهي ويقدم المشيئة ويطمئن والده أنه سيجده.. إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ

هو الصبر على أي حال وعلى كل حال.. وربما استعذب الابن أن يموت ذبحا بأمر من الله.. ها هو ذا إبراهيم يكتشف أن ابنه ينافسه في حب الله. لا نعرف أي مشاعر جاشت في نفس إبراهيم بعد استسلام ابنه الصابر.. لا نعرف.

ينقلنا الحق نقلة خاطفة فإذا إسماعيل راقد على الأرض، وجهه في الأرض رحمة به كيلا يرى نفسه وهو يذبح. وإذا إبراهيم يرفع يده بالسكين.. وإذا أمر الله مطاع.

فَلَمَّا أَسْلَمَا

استخدم القرآن هذا التعبير.. (فَلَمَّا أَسْلَمَا) هذا هو الإسلام الحقيقي.. تعطي كل شيء، فلا يتبقى منك شيء.

عندئذ فقط.. وفي اللحظة التي كان السكين فيها يتهيأ لإمضاء أمره.. نادى الله إبراهيم.. انتهى اختباره، وفدى الله إسماعيل بذبح عظيم، وصار اليوم عيدا لقوم لم يولدوا بعد.. هم المسلمون. صارت هذه اللحظات عيدا للمسلمين.

عيدا يذكرهم بمعنى الإسلام الحقيقي الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل.

ومضت قصة إبراهيم. ترك ولده إسماعيل وعاد يضرب في أرض الله داعيا إليه، خليلا له وحده.. ومرت الأيام. كان إبراهيم قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق وعبر الأردن وسكن في أرض كنعان في البادية. ولم يكن إبراهيم ينسى خلال دعوته إلى الله أن يسأل عن أخبار لوط مع قومه، وكان لوط أول من آمن به، وقد أثابه الله بأن بعثه نبيا إلى قوم من الفاجرين العصاة.

كان إبراهيم جالس لوحده. في هذه اللحظة، هبطت على الأرض أقدام ثلاثة من الملائكة: جبريل وإسرافيل وميكائيل. يتشكلون في صور بشرية من الجمال الخارق. ساروا صامتين. مهمتهم مزودجة. المرور على إبراهيم وتبشيره. ثم زيارة قوم لوط ووضع حد لجرائمهم.

سار الملائكة الثلاثة قليلا.. ألقى أحدهم حصاة أمام إبراهيم. رفع إبراهيم رأسه.. تأمل وجوههم.. لا يعرف أحدا فيهم.. بادروه بالتحية.. قالوا: سلاما.. قال: سلام

نهض إبراهيم ورحب بهم.. أدخلهم بيته وهو يظن أنهم ضيوف وغرباء. أجلسهم واطمأن أنهم قد اطمأنوا، ثم استأذن وخرج.. راغ إلى أهله.

نهضت زوجته سارة حين دخل عليها. كانت عجوزا قد ابيض شعرها ولم يعد يتوهج بالشباب فيها غير وميض الإيمان الذي يطل من عينيها.

قال إبراهيم لزوجته: زارنا ثلاثة غرباء.

سألته: من يكونون؟

قال: لا أعرف أحدا فيهم.. وجوه غريبة على المكان.. لا ريب أنهم من مكان بعيد، غير أن ملابسهم لا تشي بالسفر الطويل. أي طعام جاهز لدينا؟

قالت: نصف شاة.

قال وهو يهم بالانصراف: نصف شاة.. اذبحي لهم عجلا سمينا.. هم ضيوف وغرباء. ليست معهم دواب أو أحمال أو طعام.. ربما كانوا جوعى وربما كانوا فقراء.

اختار إبراهيم عجلا سمينا وأمر بذبحه، فذكروا عليه اسم الله وذبحوه. وبدأ شواء العجل على الحجارة الساخنة.. وأعدت المائدة.. ودعا إبراهيم ضيوفه إلى الطعام، وأوقف زوجته في خدمتهم زيادة في الإكرام والحفاوة، ووضع العجل المشوي أمام الضيوف.

أشار إبراهيم بيده أن يتفضلوا باسم الله، وبدأ هو يأكل ليشجعهم. كان إبراهيم كريما يعرف أن الله لا يتخلى عن الكرماء وربما لم يكن في بيته غير هذا العجل، وضيوفه ثلاثة ونصف شاة يكفيهم ويزيد، غير أنه كان سيدا عظيم الكرم. راح إبراهيم يأكل ثم استرق النظر إلى ضيوفه ليطمئن أنهم يأكلون. لاحظ أن أحدا لا يمد يده إلى الطعام. قرب إليهم الطعام وقال: ألا تأكلون؟ عاد إلى طعامه ثم اختلس إليهم نظرة فوجدهم لا يأكلون.. رأى أيديهم لا تصل إلى الطعام. عندئذ (أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً). في تقاليد البادية التي عاش فيها إبراهيم، كان معنى امتناع الضيوف عن الأكل أنهم يقصدون شرا بصاحب البيت.

ولاحظ إبراهيم بينه وبين نفسه أكثر من ملاحظة تؤيد غرابة ضيوفه. لاحظ أنهم دخلوا عليه فجأة. لم يرهم إلا وهم عند رأسه. لم يكن معهم دواب تحملهم، لم تكن معهم أحمال.. وجوههم غريبة تماما عليه. كانوا مسافرين وليس عليهم أثر لتراب السفر. ثم ها هو ذا يدعوهم إلى طعامه فيجلسون إلى المائدة ولا يأكلون.. ازداد خوف إبراهيم.. رفع نظره فوجد امرأته سارة تقف في نهاية الحجرة.

حاول أن يقول لها بنظراته أنه خائف من ضيوفه، فلم تفهم المرأة.. وفكر إبراهيم في رجاله وخدمه وقومه.. إن عدد الضيوف ثلاثة.. وهم في مقتبل الشباب، وهو رجل عجوز وشيخ. كان الملائكة يقرءون أفكاره التي تدور في نفسه، دون أن يشي بها وجهه. قال له أحد الملائكة: (لاَ تَخَفْ). رفع إبراهيم رأسه وقال بصدق عظيم وبراءة: اعترف إنني خائف. لقد دعوتكم إلى الطعام ورحبت بكم، ولكنكم لا تمدون أيديكم إليه.. هل تنوون بي شرا؟

ابتسم أحد الملائكة وقال: نحن لا نأكل يا إبراهيم.. نحن ملائكة الله.. وقد أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ

ضحكت زوجة إبراهيم.. كانت قائمة تتابع الحوار بين زوجها وبينهم، فضحكت .

التفت إليها أحد الملائكة وبشرها بإسحاق. يبشرك الله بإسحاق.

صكت العجوز وجهها تعجبا، وقالت:

يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا

عاد أحد الملائكة يقول لها:

وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ

جاشت المشاعر في قلب إبراهيم وزوجته.. شف جو الحجرة وانسحب خوف إبراهيم واحتل قلبه نوع من أنواع الفرح الغريب المختلط.. كانت زوجته العاقر تقف هي الأخرى وهي ترتجف.. إن بشارة الملائكة تهز روحها هزا عميقا.. إنها عجوز عقيم وزوجها شيخ كبير.. كيف.. كيف يمكن؟

وسط هذا الجو الندي المضطرب تساءل إبراهيم:

أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ

أكان يريد أن يسمع البشارة مرة أخرى؟ أكان يريد أن يطمئن قلبه ويسمع للمرة الثانية منة الله عليه؟ أكان ما بنفسه شعورا بشريا يريد أن يستوثق؟ ويهتز بالفرح مرتين بدلا من مرة واحدة؟ أكد له الملائكة أنهم بشروه بالحق.

قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ
قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ

لم يفهم الملائكة إحساسه البشري، فنوه عن أن يكون من القانطين، وأفهمهم أنه ليس قانطا.. إنما هو الفرح. كان رد الفعل على زوجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مدهشا.. عادت للمرة الثانية تتدخل في الحديث.. تساءلت بين الذهول والدهشة:

 أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ

رد الملائكة:

قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ

لم تكن البشرى شيئا بسيطا في حياة إبراهيم وزوجته.. لم يكن لإبراهيم غير ولد واحد هو إسماعيل، تركه هناك بعيدا في الجزيرة العربية. ولم تكن زوجته سارة قد أنجبت خلال عشرتها الطويلة لإبراهيم، وهي التي زوجته من جاريتها هاجر.. ومن هاجر جاء إسماعيل.. أما سارة، فلم يكن لها ولد.. وكان حنينها إلى الولد عظيما، لم يطفئ مرور الأيام من توهجه. ثم دخلت شيخوختها واحتضر حلمها ومات. كانت تقول: إنها مشيئة الله عز وجل.

هكذا أراد الله لها.. وهكذا أراد لزوجها.. ثم ها هي ذي في مغيب العمر تتلقى البشارة.. ستلد غلاما. ليس هذا فحسب، بشرتها الملائكة بأن ابنها سيكون له ولد تشهد مولده وتشهد حياته.. لقد صبرت طويلا ثم يئست ثم نسيت.. ثم يجيء جزاء الله مفاجأة تمحو هذا كله في لحظة.

فاضت دموعها وهي تقف.. وأحس إبراهيم عليه الصلاة والسلام بإحساس محير.. جاشت نفسه بمشاعر الرحمة والقرب، وعاد يحس بأنه إزاء نعمة لا يعرف كيف يوفيها حقها من الشكر.. وخر إبراهيم ساجدا على وجهه.

إن ابنه إسماعيل هناك.. بعيدا منه ولا يراه.. وهو موجود هناك بأمر الله.. أمره الله أن يحمله مع أمه ويتركهما في واد غير ذي زرع وماء.. هكذا بغير تفسير أو إيضاح.

وصدع إبراهيم بالأمر.. وعاش يدعو الله وحده.. والآن، فان الله تعالى يبشره بعد شيخوخته أنه سينجب إسحق من سارة.. ومن بعده يعقوب.. انتهى الأمر واستقرت البشرى في ذهنيهما معا.. نهض إبراهيم من سجوده فوقعت عينه على الطعام. أحس أنه لا يستطيع أن يستمر في الأكل من فرط فرحته.. أمر خدمه أن يحملوا الطعام والتفت إلى الملائكة.

ذهب عنه خوفه، واطمأنت حيرته، وغادره الروع، وسكنت قلبه البشرى التي حملوها إليه. وتذكر أنهم أرسلوا إلى قوم لوط.. ولوط ابن أخيه النازح معه من مسقط رأسه، والساكن على مقربة منه.. وإبراهيم يعرف معنى إرسال الملائكة إلى لوط وقومه.. هذا معناه وقوع عذاب مروع. وطبيعة إبراهيم الرحيمة الودودة لا تجعله يطيق هلاك قوم في تسليم.. ربما رجع قوم لوط وأقلعوا وأسلموا أجابوا رسولهم.. ربما حدث هذا.

وبدأ إبراهيم يجادل الملائكة في قوم لوط. حدثهم عن احتمال إيمانهم ورجوعهم عن طريق الفجور، وأفهمه الملائكة أن هؤلاء قوم مجرمون. وأن مهمتهم هي إرسال حجارة من طين مسومة من عند ربك للمسرفين.. وعاد إبراهيم، بعد أن سد الملائكة باب هذا الحوار، عاد يحدثهم عن المؤمنين من قوم لوط. سألهم: أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قال الملائكة: لا.. فراح ينقص من عدد المؤمنين ويسألهم أيهلكون القرية وفيها هذا العدد من المؤمنين.

ردته الملائكة بقولهم: نحن أعلم بمن فيها.. ثم أفهموه أن الأمر قد قضي.. وإن مشيئة الله تبارك وتعالى قد اقتضت نفاذ الأمر وهلاك قوم لوط.. أفهموا إبراهيم أن عليه أن يعرض عن هذا الحوار.. ليوفر حلمه ورحمته.. لقد جاء أمر ربه.. وتقرر عليهم (عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) عذاب لن يرده جدال إبراهيم.

هذا النبي الحليم الأواه المنيب. قال تعالى في سورة (هود):

وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ

كانت كلمة الملائكة إيذانا بنهاية الجدال.. سكت إبراهيم. وتوجهت الملائكة لقوم لوط عليه السلام.

 

سنورد قصة بناء بيت الله تعالى في قصة إسماعيل عليه السلام.

 


This page was done by E.Youusef Albaba