موسى وهارون عليهما السلام
|
موسى وهارون عليهما السلام الجزء الثاني واجه موسى فرعون بلين ورفق كما أمره الله. اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى حدثه عن الله.. عن رحمته وجنته.. عن وجوب توحيده وعبادته.. حاول إيقاظ
جوانبه الإنسانية في الحديث. ألمح إليه أنه
يملك مصر، ويستطيع لو أراد أن يملك الجنة. وما
عليه لذلك إلا أن يتقي الله.. استمع فرعون إلى
حديث موسى ضجرا شبه هازئ وقد تصوره مجنونا
تجرأ على مقامه السامي.. ثم رفع يده وتحدث.
ماذا تريد؟ قل: ماذا تريد واختصر. ألست موسى الذي ربيناه في هذا القصر وأكل من طعامنا وشرب من مائنا وأغرقه خيرنا وأحسنا إليه؟! ألست موسى القاتل فيما بعد.. الفار فيما بعد.. قاتل الرجل المصري لو لم تخني الذاكرة؟! ألا يقولون إن القتل كفر؟! كنت كافرا وأنت تقتل إذن.. أنت موسى إذن.. الفار من القانون المصري.. الهارب من وجه العدالة.. ثم تجيء إلي وتحدثني.. فيم كنت تحدثني يا موسى.. لقد نسيت. فهم موسى أن فرعون يذكره بماضيه ويمن عليه أنه رباه وأحسن إليه، فهم أيضا أن الفرعون يهدده بحادث القتل القديم.. وتجاوز موسى سخرية فرعون وأفهمه أنه لم يكن كافرا حين قتل المصري.. وإنما كان ضالا لم يوح الله إليه. أفهمه أنه فر من مصر لأنه خاف انتقامهم منه رغم أن القتل كان خطأ ولم يكن يقصده. أفهمه أن الله وهبه حكما وجعله من المرسلين. حكى الله تعالى في سورة الشعراء جزءا من الحوار بين موسى وفرعون. قال تعالى: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ وتغلبت طبيعة موسى المندفعة عليه.. إن منّ الفرعون عليه وتذكيره بإحسانه عليه يثيران طبيعته المندفعة.. فإذا هو يخاطب فرعون قائلا: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يريد موسى أن يقول له.. هل تظن أن النعمة التي تمنها علي.. من أنك أحسنت إلي وأنا رجل واحد من بني إسرائيل.. هل تظن هذه النعمة تقابل ما استخدمت هذا الشعب الكبير بأكمله، واستعبدتهم في أعمالك وخدمتك وأشغالك؟ إن كان هذا بذاك وطاوعك المنطق على ذلك فنحن متعادلون إذن.. ليس فينا دائن ومدين، وإن لم يكن هذا بذاك فأيهما أكبر؟ وعلى أي الحالات فالأمر أمر دعوة إلى الله. أمر لم آتك به من تلقاء نفسي.. لست موفدا من شعب بني إسرائيل.. لست موفدا من قبل نفسي.. إنما أنا موفد من الله تعالى.. أنا رسول رب العالمين. عند
هذا الحد تدخل الفرعون في الحديث.. قَالَ
فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قال تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى نلاحظ أن فرعون لم يكن يسأل موسى عن رب العالمين أو رب موسى وهارون بقصد السؤال البريء والمعرفة. إنما كان يهزأ. ولقد أجابه موسى إجابة جامعة مانعة محكمة. قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى هو الخالق. خالق الأجناس جميعا والذوات جميعا. وهو هاديها بما ركب في فطرتها وجبلتها من خواص تهديها لأسباب عيشها. وهو الموجه لها على أي حال. وهو القابض على ناصيتها في كل حال..وهو العليم بها والشاهد عليها في جميع الأحوال. توحي العبارة القرآنية بهذا كله وأكثر. فتأمل إيجازها المعجز. رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى انزلقت العبارة على ذهن فرعون السميك مثلما تنزلق قطرة من الزئبق على سطح من الزجاج. لم تترك أثرا أو علامة. وها هو ذا فرعون يسأل: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى لم تعبد ربك هذا؟ لم يزل فرعون ماضيا في استكباره واستهزائه. ويرد موسى ردا يستلفته إلى أن القرون الأولى التي لم تعبد الله، والتي عبدته معا، لن تترك بغير مساءلة وجزاء. كل شيء معلوم عند الله تعالى.. هذه القرون الأولى (عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ). أحصى الله ما عملوه في كتاب. (لَّا يَضِلُّ رَبِّي).. أي لا يغيب عنه شيء. (وَلَا يَنسَى). أي لا يغيب عن شيء. ليطمئن الفرعون بالا من ناحية القرون الأولى والأخيرة وما بينهما.. إن الله يعرف كل شيء ويسجل عليهما ما عملته ولا يضيع شيئا من أجورهم. عاد موسى يكمل حديثه عن ربه. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى استلفت موسى نظر فرعون إلى آيات الله في الكون. ودار به مع حركة الرياح والمطر والنبات وأوصله مرة ثانية إلى الأرض، وهناك افهمه أن الله خلق الإنسان من الأرض، وسيعيده إليها بالموت، ويخرجه منها بالبعث، إن هناك بعثا إذن.. وسيقف كل إنسان يوم القيامة أمام الله تعالى.. لا استثناء لأحد.. سيقف كل عباد الله وخلقه أمامه يوم القيامة. بما في ذلك الفرعون.. بهذا جاء موسى مبشرا ومنذرا. لم يعجب فرعون هذا النذير، وتصاعد الحوار بينه وبين موسى.. كان الحوار يعبر عن الصراع بينهما.. سخنت حدة الصراع فتغيرت لهجة الحوار.. أقام موسى الحجة الدامغة على فرعون، أقام عليه الحجة العقلية.. ولكن فرعون ينفلت خارجا من دائرة الحوار الذي بنى على المنطق، ويبدأ حوارا من نوع جديد. نوع لا يطيق موسى مجاراته فيه. إنه يهاجم موسى ويهدده ويحتقره ويسبه. أعطى فرعون ظهره للحق الذي جاء به موسى. وتجاهل دعوته. وبدأ يهاجمه في شخصه وملابسه وطريقة نطقه للكلمات.. أشار لمن حوله إلى فقر موسى.. وملابسه الصوفية الخشنة. وهذا التردد الذي يجتاح لسانه عند نطق بعض الكلمات.. بعد هذا التحقير لموسى.. عمد الفرعون إلى أسلوب الحكم المطلق.. سأل موسى: كيف يجرؤ على عبادة غيره..؟ ألا يعرف موسى أن فرعون إله؟ كيف يجهل موسى هذه الحقيقة رغم أنه تربى في قصر الفرعون ويعرف؟! بعد أن أعلن فرعون عن ألوهيته بصفة مبدئية. سأل موسى كيف تجرأ على عبادة غيره.. إن هذا معناه السجن.. ليس عندنا لمن يتخذ إلها غير الفرعون.. سوى السجن.. قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ أدرك موسى أن الحجج العقلية لم تفلح. إن الحوار الهادئ ينقلب من السخرية إلى المن إلى التحقير إلى التهديد بالسجن. أدرك موسى أن وقت إظهار المعجزة قد جاء. قال للفرعون بعد تهديده له بالسجن.. قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ إنه يتحدى الفرعون.. وها هو ذا يقبل تحديه.. ويعلق صدقه على أن يأتيه بهذا الشيء المبين. قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ألقى موسى عصاه في ردهة القصر العظيمة. في البداية، خيل إلى فرعون أن العصا سقطت من موسى بسبب ارتباكه بعد أن طالبه بإظهار الدليل على صدقه. تحولت أنظار الواقفين جميعا إلى العصا وهي ترتطم بأرض الردهة الرخامية. لم تكد العصا تلمس الأرض حتى تحولت إلى ثعبان هائل يتحرك بسرعة. اتجه الثعبان الهائل نحو فرعون. شحب وجه فرعون من الخوف، وانكمش في كرسيه، وصرخ أن يبعدوا عنه الثعبان. مد موسى يده إلى الثعبان فعاد في يده إلى عصا كما كان. سقط الصمت بعد هذه الآية.. عاد موسى يكشف أمام الواقفين معجزته الثانية. أدخل يده في جيبه وأخرجها فإذا هي بيضاء كالقمر. شحبت كل أضواء القصر وشموعه أمام هذا النور الجديد. وظهر وجه فرعون أخضر من الخوف. قال تعالى: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ صمتت الأصوات في القصر. وانغرس تأثير المعجزتين في النفوس يحمل تيارا من الخوف أول ما يحمل.. ثم أعاد موسى يده إلى جيبه فعادت كما كانت. ذاب النور المدهش الذي حملته الآية الثانية إلى المكان، قال فرعون ممتقع الوجه: اذهبا الآن.. نتحدث فيما بعد. استدار موسى وخرج من القصر. كان فرعون ذاهلا. جال تفكيره فيما يمكن أن يقع في المملكة لو انتشر فيها خبر المعجزتين وتحدث الناس عن موسى وهارون. أصدر الفرعون أمره بإسدال الصمت على الموضوع، ولكن خدم القصر وجواريه وجزءا من بني إسرائيل شهدوا المعجزتين. وملئوا الدنيا حديثا عنهما. بهت فرعون مصر تماما حين واجه المعجزتين. فلما خرج موسى من قصره تحول من الذهول والخوف إلى الغضب العنيف. انفجرت ثورته في وزرائه ورجاله وراح يعنفهم بلا سبب.. أمرهم بالخروج من مجلسه وخلا بنفسه.. حاول أن يفكر في الموضوع بهدوء أكثر. شرب عدة كئوس من الخمر فلم يذهب غيضه.. ثم أصدر أمره باجتماع خطير يدعى إليه كل وزراء مصر وقادتها ومسئوليها.. وأصدر الفرعون أمره لهامان، كبير وزرائه، أن يشرف بنفسه على عقد الاجتماع.. واجتمع الملأ من قوم فرعون.. دخل فرعون الاجتماع ووجهه متصلب.. كان واضحا أنه لن يستسلم بسهولة، إنه يقيم ملكه على أساس أنه إله يعبده المصريون. وهو يستبد بهم ويتحكم فيهم ويستغلهم طبقا لهذه الفكرة.. وها هو ذا موسى يجيء ليهدم كل ما بناه. أبسط شيء أن موسى يقول إن هناك إلها واحدا لا إله غيره في الكون. معنى هذا أن فرعون كاذب. لم تكد هذه
الفكرة تستقر في رأس فرعون.. حتى التفت إلى
كبير وزرائه هامان.. كانت الجلسة التاريخية
منعقدة.. ولم يكن هناك من تجرأ على فتح فمه بعد..
افتتح فرعون الجلسة بأن ألقى على هامان سؤاله
المفاجئ: هل أنا كاذب يا هامان؟ قال فرعون نافد الصبر وهو يدير وجهه إلى الجهة الأخرى: أعرف أنه يكذب. ثم ملتفتا إلى هامان: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا أصدر الفرعون أمره الملكي ببناء صرح شاهق يفترض في ارتفاعه أن يصل إلى السماء. استند الأمر الفرعوني إلى حضارة مصر وولعها بالبناء، غير أنه تجاهل القوانين الهندسية الحاكمة، ورغم ذلك رد هامان منافقا وهو يعرف باستحالة بناء مثل هذا الصرح: - سأصدر أمرا ببنائه على الفور.. لكنك يا مولاي.. واسمح لي بالاعتراض للمرة الأولى على الفرعون.. لن تجد شيئا في السماء.. ليس هناك إله غيرك.. استمع فرعون إلى اعتراض رئيس وزرائه راضيا كأنه يستمع إلى حقيقة مقررة.. ثم أعلن في اجتماعه الشهير كلمته التاريخية: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي حنى الجميع رءوسهم موافقين. كان بينهم اثنان و ثلاثة. لم يزل في رءوسهم عقل. وكان هؤلاء الثلاثة يعرفون أن فرعون هو الذي يكذب. ورغم ذلك سكتوا على الكذب ووافقوه. وقد كلفت هذه الموافقة الشعب المصري غاليا. دفع الجنود المصريون من دمهم فيما بعد ثمن نفاق قادتهم وموافقة وزرائهم وخضوع كهنتهم لجنون الفرعون. قال
فرعون وهو يسأل مستشاريه: ماذا قلتم في موسى؟ سكت المستشارون خوفا ونفاقا من فرعون. وانتظروا أن يضع هو الكلمات في أفواههم ليرددوها بعده كالببغاوات. قال فرعون بعد لحظة صمت فلسفي مضحك: اعتقد أن موسى لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ من المعروف في أنظمة الحكم المطلق أن اجتماع وجوه القوم وكبارهم لإبداء الرأي أمام الحاكم الطلق لا يعني أكثر من اجتماعهم لتلقي الرأي وترديده بعد ذلك. قال المستشارون بعد أن أعطاهم فرعون حبل الكلمات: - صدق فرعون.
إن موسى ساحر، لقد انحلت المشكلة، سترجئ موسى
وأخاه ونبعث بأمر الفرعون في مصر كلها ليحضر
السحرة، فإذا حضر السحرة وقفوا أمام موسى
واثبتوا أنه ساحر وهزموه.. وبذلك نكشفه أمام
المصريين وأبناء إسرائيل.. قال
فرعون لموسى: أنت ساحر يا موسى. ولقد قررت أن
أكشفك أمام الجميع وبعد أيام قليلة يحضر
السحرة. قال تعالى في سورة طه: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى انصرف موسى مطمئنا.. وبدت وفود السحرة تصل إلى قصر فرعون. وحين اجتمعوا جميعا أمر فرعون بإدخالهم عليه. سجد السحرة لفرعون حين دخلوا عليه. أمرهم فرعون بالوقوف، وراح يتمشى بينهم ويتأمل وجوههم وملابسهم وهو صامت يفكر، ثم وقف فجأة وقال: أيها السحرة.. نحن نواجه مشكلة صغيرة، وقد أمرت بإحضاركم لحلها.. حنى السحرة رءوسهم واستمعوا.. عاد الفرعون يتحدث: جاءنا رجل يدعي أنه رسول من الله، رجل اسمه موسى، ومعه أخوه هارون.. وموسى هذا ساحر أمهر منه وأقدر.. يجب أن تهزموه هزيمة مطلقة لا يستطيع رفع رأسه بعدها.. حنى السحرة
رءوسهم وظلوا صامتين. قال فرعون:
لماذا لم يسألني أحدكم عن سحر موسى؟! قال تعالى في سورة الأعراف: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وجاء يوم الزينة.. وخرج الناس من بيوتهم وهم يتحدثون عن اللقاء بين موسى وفرعون. بدأ الناس يتوجهون إلى مكان الاحتفال منذ الصباح المبكر.. لم يكن هناك أحد في مصر لم يعرف قصة التحدي واللقاء.. وهلل الناس حين وصل السحرة.. كما هللوا حين وصل فرعون.. ثم ساد صمت ثقيل حين وصل موسى وهارون. كان مكان الاحتفال مكشوفا إلا من مظلة فرعونية لتقي رأس فرعون من حرارة الشمس.. ووقف فرعون وسط أبهته وجنوده وقواده وهو يرتدي الذهب والجواهر، ووقف موسى مطأطئ الرأس يذكر الله في نفسه.. صمتت الأصوات تماما وتقدم السحرة إلى موسى.. قال
السحرة لموسى: إِمَّا أَن
تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ
مَنْ أَلْقَى قال بعض أهل الحقائق.. التفت موسى فإذا جبريل على يمينه يقول له: يا موسى.. ترفق بأولياء الله.. قال موسى لنفسه: هؤلاء سحرة جاءوا ينصرون دين فرعون.. عاد جبريل يقول: ترفق بأولياء الله.. هم من الساعة إلى صلاة العصر عندك، وبعد صلاة العصر في الجنة. رمى السحرة بعصيهم وحبالهم فإذا المكان يمتلئ بالثعابين فجأة.. سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وهلل المصريون.. وابتسم الفرعون ابتسامة واسعة وقال في نفسه: لقد تم القضاء على موسى الآن.. إن معجزته أن العصا تتحول في يده إلى حية.. ها هو ذا فرعون يحضر له عشرات السحرة الذين تتحول العصي والحبال في أيديهم إلى حيات.. زادت ابتسامة فرعون.. ونظر موسى عليه السلام إلى حبال السحرة وعصيهم وشعر بالخوف.. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى تذكر ما قاله له جبريل وأحس بالخوف.. كيف يمكن أن يدخل هؤلاء السحرة الجنة ويكونوا أولياء الله.. مثلما يطفأ النور ثانية أو ثانيتين ويسود الظلام.. شعر موسى بذلك.. ولا أحد يعرف حقيقة الأفكار التي عبرت ذهن موسى وهو يقف في ملابسه الفقيرة مع أخيه أمام كل هذا الحشد العظيم من حرس الفرعون وجنوده.. لم يستمر إحساس موسى بالخوف، عاد النور يضيء داخله والله سبحانه وتعالى يقول له: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى اطمأن موسى حين سمع رب العالمين يطمئنه.. كفت يده عن ارتعاشها الخفيفة، ورفع موسى عصاه وألقاها فجأة.. لم تكد عصا موسى تلامس الأرض حتى وقعت المعجزة.. شاهد الناس والسحرة وفرعون وجنوده شيئا لم يشاهده أحد من قبل في العالم.. المعروف أن الساحر يستطيع أن يخدع أعين الناس ويوهمهم أن الثعبان يتحرك وهو ثابت، أن العصا تتحرك وهي ثابتة.. لكن ما حدث ساعتها كان شيئا مختلفا تماما.. لم تكد عصا
موسى تلمس الأرض حتى تحولت إلى ثعبان جبار
سريع الحركة، وتقدم هذا الثعبان فجأة نحو
حبال السحرة وعصيهم التي كانت تتحرك وبدأ
يأكلها واحدا بعد آخر.. راحت عصا موسى تأكل
حبال السحرة وعصيهم بسرعة مخيفة.. وأدرك السحرة أنهم ليسوا أمام ساحر.. إنهم سادة السحر وأعظم العلماء في زمانهم.. وما رأوه منذ لحظات لا يدخل في باب السحر أو العلم.. إنما هذه معجزة من الله.. وألقى السحرة أنفسهم على الأرض ساجدين.. قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ شهد
المصريون وأبناء إسرائيل هذه المعجزة
المفاجئة.. شهدوا سجود السحرة لموسى وهارون..
وأحس فرعون أن الأمر يفلت من يده فنهض واقفا
وصاح في السحرة: كيف تؤمنون به قبل أن أعطيكم
إذنا بذلك؟ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ستقطع
أيديكم وأرجلكم.. ستصلبون في جذوع النخل، إنها
مؤامرة واضحة.. عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ولو عذبتنا وقتلتنا وصلبتنا فإنك تعذبنا في هذه الحياة.. وهي لا شيء بجانب الآخرة.. ونحن نطمع في مغفرة الله ودخول الجنة.. وأصدر الفرعون أمره بصلب السحرة جميعا.. ووقف الناس يتفرجون على ما يحدث.. لم تكن شهادة السحرة لموسى شيئا يستهان به.. إن هؤلاء هم صفوة المجتمع المصري.. هم علماؤه.. وقد سجد علماء مصر للحق، فخذلهم الناس وتركوهم لمصيرهم. كان الحق واضحا ورغم ذلك اكتفى الناس بالفرجة، ولو أن كل واحد من المصريين انحنى على الأرض وتناول قطعة من الطوب وقذف بها فرعون لسقط فرعون وتغير تاريخ مصر.. ولكن الذي حدث أن أحدا لم يتحرك من مكانه، اكتفى الناس بالفرجة، ودفع الناس فيما بعد ثمن هذه الفرجة.. غرق الناس فيما بعد ثمنا لجبن يوم واحد.. وأسدل الستار على هذا اليوم العظيم.. وانصرف موسى وهارون.. وعاد الفرعون لقصره.. حكى الله تعالى في سورة الأعراف ما كان من أمر السحرة وموسى.. قال تعالى: قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ انقلب السحرة المصريون إلى الإسلام الذي جاء به موسى.. آمنوا بالله.. وصعدوا بهم إلى جذوع النخل لصلبهم وتقطيع أيديهم وأرجلهم، وهم يسألون الله أن يتوفاهم مسلمين. وفهم موسى معنى كلمات جبريل عليه السلام: "هم من الساعة إلى صلاة العصر عندك.. وبعدها في الجنة". لم يكد العصر يدخل حتى كانت أجسام السحرة.. علماء مصر وخيرة عقولها.. كانت أجسادهم تشخب دماء وهي مصلوبة يثبتها جنود الفرعون بالسهام القوية.. انكفأ فرعون على مشكلته الجديدة.. بدأت سلسة اجتماعات خطيرة في قصره.. استدعى المسئول عن الجيش والشرطة.. واستدعى -ما نسميه اليوم- مدير الاستخبارات، واستدعى الوزراء والأمراء والكهنة.. وراح يستدعي كل من يملك قوة للتأثير في سير الحوادث، أو يتصور أنه يملك هذه القوة. سأل
الفرعون مدير استخباراته: ماذا يقول الناس؟ أصدروا التعليمات بذلك. وانطلق رجال الفرعون يقتلون الأبناء وينتهكون النساء ويسجنون من يعترض. ووقف موسى يشهد ما يحدث دون أن يملك التدخل أو يقوى على دفعه.. كل ما فعله أنه أمر قومه بالصبر.. أمرهم أن يستعينوا بالله ويصبروا على المحنة.. ضرب لهم مثلا بالسحرة المصريين الذين احتملوا في الله ما احتملوه بغير شكاة. أفهمهم أن جنود فرعون يتصرفون في الأرض كما لو كانت الأرض ملكا خاصا لهم، غير أن هذا ليس صحيحا.. سيرث هذه الأرض من يتقي الله.. وأشاع إرهاب الفرعون في نفوس بني إسرائيل روحا من الانهزام والتشاؤم. وقالوا لموسى: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا.. كانت الأنبياء تقتل قبل مجيئك وبعد مجيئك إلينا. كأنهم يقولون له إن وجودك لا يؤثر في شيء.. نحن وحدنا تماما. ورد موسى جهلهم وأفهمهم أن الله سيهلك عدوهم ثم يستخلفهم في الأرض فيرى كيف يعملون.. غير أنهم استمروا على شكايتهم وتأذيهم. وبدا موقف موسى صعبا.. إنه يواجه غضب الفرعون ومؤامرته، وتذمر قومه في الوقت نفسه.. ووسط هذه الظروف تحرك قارون.. كان قارون من أبناء إسرائيل.. (كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ) إن ثرائه وظروفه جعلاه أقرب طبقيا وعاطفيا إلى نظام فرعون. يحدثنا الله عن كنوز قارون فيقول سبحانه وتعالى إن مفاتيح الحجرات التي تضم الكنوز، كان يصعب حملها على مجموعة من الرجال الأشداء. ولو عرفنا عن مفاتيح الكنوز هذه الحال، فكيف كانت الكنوز ذاتها؟! كان لقارون عدد عظيم من الخيل والمركبات والرجال والحرس، وكانت مركباته مطعمة بالذهب والفضة. وكانت سروج خيله المطهمة مصنوعة من الجلد المزين بالذهب والفضة وبالبرونز والنحاس. وكان قارون إذا خرج في زينته، تلألأ الذهب والنحاس تحت أشعة الشمس، وخطف الوهج أبصار أهل الدنيا.. وكان طبيعيا أن يملك قارون مع أمواله كبرياء لا يفلح معها نصح. ويبدو أن ثراءه وكبرياءه أسلماه معا لإحساس متصل بالفرح. صارت ضحكته أشهر ضحكة في بني إسرائيل، وصار موكبه أشهر المواكب بعد موكب فرعون وموكب هامان. كان الاثنان يملكان مصر كلها، ولم يكن قارون يملك غير جزء من مصر على أي حال.. ويبدو أن العقلاء من قومه نصحوه أن يفكر قليلا في آخرته، ولعلهم قالوا له: إن أحدا لا ينصحك بترك الدنيا كلها والانخراط في سلك الزاهدين. إنما نصحوه ألا ينسى نصيبه من الدنيا، وكان هذا النصح مأخوذا به ولا حاجة إليه، كما نصحوه ألا ينسى نصيبه من الآخرة.. ويبدو أن قارون اكتفى بنصيبه من الدنيا، وأوهمه عقله أن هذا الثراء جاء بسبب علمه، كما أوهمه ثراؤه أن الله يحبه.. وذهبت به الظنون إلى أنه أفضل من موسى.. إن موسى فقير وقارون شديد الثراء. كيف يكون الفقير الذي لا يرتدي أسورة واحدة من الذهب، أفضل عند الله من الغني الذي يصنع سروج خيله من الذهب؟ هكذا اتفق قارون مع فرعون في نظرته إلى موسى.. وكان فرعون يحكم على الأفراد من واقع ثرائهم المادي، كدأب الجاهلين. هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ كانت هذه كلمة فرعون عن موسى.. اتفق رأيا فرعون وقارون بالنسبة لموسى.. وكان قارون بحكم مركزه وثرائه صديقا لفرعون ونظام حكمه. ويبدو أن قارون وفرعون وهامان لم يكونوا وحدهم سجناء هذا الوهم. كان قوم فرعون.. أي المصريون ينظرون إلى موسى نظرتهم إلى ساحر هزم سحرتهم.. ولا يعني هذا أن مصر أجدبت أو خلت من الفضل، كان في المصريين من يؤمن بموسى، ويخفي إيمانه خشية بطش الفرعون. وكان في قوم موسى من ينظر إلى موسى وقارون ويقارن بينهما، وكان هناك من يتساءل ببلادة: إذا كان الله يحب موسى حقا فلماذا جعله فقيرا؟! ويبدو أن قارون كان فتنة لقومه، وللمصريين على السواء. كان إذا خرج في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وكان العقلاء رغم قلتهم يرون أن ثراء قارون العظيم لا يعني شيئا في ميزان الله، لا يرى الله الفضل في الذهب والكنوز واللآلئ والدرر والماشية، إذا كانت النفوس قد أظلمت من الداخل. وكان موقف موسى صعبا وسط هذه الظروف كلها. وفي هذه اللحظات الحرجة، تحرك قارون ضد موسى. كان موسى كنبي، رجلا يتصف بالنقاء العظيم. ويبدو أن قارون اتفق مع فرعون على محاولة إسقاط موسى في عيون اتباعه، عن طريق اتهامه بتهمة تخل بالنقاء. وهكذا فوجئ موسى يوما وهو يقف وسط قومه، ويدعوهم إلى الله، فوجئ بامرأة بغي تقذفه بتهمة مؤداها أنه كان في فراشها أمس. ونحسب أن موسى فوجئ بهذه التهمة، ولم يعرف ماذا يقول فيها، أو كيف يدفع عن نفسه اتهام البغي.. وأغلب الظن أنه صلى لله ثم أقبل عليها فسألها: لماذا تتهمه بما لم يحدث؟ وانهارت المرأة باكية مستغفرة تحدثه أن قارون أعطاها نقودا مقابل إلصاق هذا الإفك بموسى.. ودعا موسى على قارون.. وشاء الله تعالى أن تقع معجزة تضع الأمور في أماكنها الصحيحة وتبين للناس أن الله هو القادر القاهر، وأن المال فتنة وليس فضلا تقاس به أقدار الناس. وكانت هذه المعجزة هي خسف الله لقارون وداره وكنوزه.. خرج قارون على قومه في زينته.. فانشقت الأرض تحت قدميه وهوى في الأرض.. لا نعرف أكان ذلك زلزالا ينتظر منذ خلق الأرض لحظة ميلاده ليقع، أم كان ذلك زلزالا أمره الله أن يقع في هذه اللحظة.. كل ما نعرفه أن الأرض انشقت وابتلعت معها أرضه وقصوره وماشيته وذهبه وفضته وكنوزه ورجاله.. وتقول بعض الأساطير إن ذلك كان في الفيوم.. وان بحيرة قارون التي يعرفها المصريون بهذا الاسم.. كانت هي موضع أرض قارون وقصوره وكنوزه.. وعلى أي حال.. إن النص القرآني لا يحدد مكان هذا الخسف، ولا يحدد زمانه.. إنما يحكي ما وقع فحسب.. وليس تحديد المكان أو الزمان يعني شيئا إلى جوار العبرة المستخلصة مما حدث. قال تعالى في سورة القصص: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وقف كثير من القدماء أمام هذا العلم الذي أدعى قارون أنه قد أوتيه. قال بعضهم إن هذا هو علم الكيمياء الذي يتحول بسببه النحاس إلى ذهب، وقال بعضهم إنه كان يعرف اسم الله الأعظم، فاستخدمه في تحويل المواد إلى ذهب. وأنكر عليه العقلاء من القدماء أن يعرف اسم الله الأعظم، وهو منافق، كما أنكروا عليه صنعة الكيمياء.. ونحسب أن هذا كله أساطير لا تصلح لتفسير أسباب ثرائه، نعتقد أنه كان رجلا ظالما، ورث ضياعا واسعة فاستغلها في تنمية ثروته، ولا بأس بعمل غير مشروع هنا ولا بأس من صداقة الفرعون والتسهيلات التي تتيحها مثل هذه الصداقة. ولا بأس من الوقوف ضد موسى، إذا كان ذلك يتفق مع المصلحة. ولا بأس من ظلم هنا وهناك.. بعدها يكون من المنطقي أن يقول إنه أوتي أمواله على علم عنده.. لقد أجهد الرجل نفسه في الكذب والظلم حتى صنع ثروته. إن الانحراف عن الإيمان بالله.. ولو شعرة واحدة.. ينتهي بالإنسان إلى كبرياء تضطرب معها الحقائق، وتختلط الأمور، ويصبح الادعاء الكاذب شيئا منطقيا ومفهوما ولا حاجة لتحليله.. لم يكد خسف قارون يتم، حتى ارتفعت رءوس المؤمنين بموسى وانقشع غمهم بعد طول استياء. عاين المصريون وأبناء إسرائيل هذه المعجزة. وعاد الصراع بين موسى وفرعون يصل إلى ذروته.. وأيقن فرعون أن موسى يهدده في ملكه.. كان موسى مثل كل الأنبياء يحمل برسالته حكما بالإعدام على شرور عصره ومراكز القوة الظالمة.. واتحدت شرور العصر في قصر الفرعون.. هناك طرح فرعون مصر فكرة قتل موسى.. كان فرعون قد صار إلى اقتناع بأن قتل موسى هو الكفيل بحل مشكلاته.. وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ سنلاحظ أن فرعون يرتدي مسوح الداعين إلى الحق، إنه يختلس لنفسه مهام الأنبياء، ويخاف على الناس أن يضلهم موسى.. وهو يقترح على وزرائه وكبار رجاله أن يتركوه يقتل موسى.. والمفهوم الطبيعي أنه لن يقتل موسى بيديه وإنما هو يطرح فكرة قتله أمامهم، لتقوم السلطات بتنفيذها.. ونتعقد أن هامان حبذ الفكر، وتكونت جبهة من المنافقين الذين يؤيدون فكرة الفرعون.. كادت الفكرة تحصل على التصديق، لولا رجل من آل فرعون.. رجل من رجال الدولة الكبار، لا يذكر القرآن اسمه، لأن اسمه لا يهم، لم يذكر صفته أيضا لأن صفته لا تعني شيئا، إنما ذكر القرآن أنه رجل مؤمن.. ذكره بالصفة التي لا قيمة صفة بعدها. تحدث هذا الرجل المؤمن، وكان (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ)، تحدث في الاجتماع الذي طرحت فيه فكرة قتل موسى وأثبت عقم الفكرة وسطحيتها. قال إن موسى لم يقل أكثر من أن الله ربه، وجاء بعد ذلك بالأدلة الواضحة على كونه رسولا، وهناك احتمالان لا ثالث لهما: أن يكون موسى كاذبا، أو يكون صادقا، فإذا كان كاذبا (فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)، وهو لم يقل ولم يفعل ما يستوجب قتله. وإذا كان صادقا وقتلناه، فما هو الضمان من نجاتنا من العذاب الذي يعدنا به؟ تحدث المؤمن الذي يكتم إيمانه فقال لقومه: إننا اليوم في مراكز الحكم والقوة، مثلما كان قارون بالأمس في مركز الثراء والقوة، ثم أصابه ما أصابه.. من ينصرنا من بأس الله إذا جاء؟ ومن ينقذنا من عقوبته إذا حلت؟ إن إسرافنا وكذبنا قد يضيعاننا.. وبدت كلماته مقنعة.. إنه رجل ليس متهما في ولائه لفرعون.. وهو ليس من اتباع موسى.. والمفروض أنه يتكلم بدافع الحرص على عرش الفرعون.. ولا شيء يسقط العروش كالكذب والإسراف وقتل الأبرياء.. ومن هذا الموضع استمدت كلمات الرجل المؤمن قوتها.. بالنسبة إلى فرعون ووزرائه ورجاله.. ورغم أن فرعون وجد فكرته في قتل موسى، صريعة على المائدة. رغم تخويف الرجل المؤمن لفرعون.. رغم ذلك قال الفرعون كلمته التاريخية التي ذهبت مثلا بعده لكل الطغاة.. قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ هذه كلمة الطغاة دائما حين يواجهون شعوبهم.. (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى).. هذا رأينا الخاص.. وهو رأي يهديكم سبيل الرشاد. وكل رأي غيره خاطئ.. وينبغي الوقوف ضده واستئصاله.. حدثنا الله عن هذا الموقف في سورة غافر. وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ لم تتوقف المناقشة عند هذا الحد.. قال فرعون كلمته ولكنه لم يقنع بها الرجل المؤمن.. وعاد الرجل المؤمن يتحدث: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ سنلاحظ في هذا الحديث اختلافا عن الحديث.. إن الرجل المؤمن يغوص في حديثه الأخير في أعماق التاريخ وهو يقدم لفرعون وقومه أدلة كافية على صدق موسى.. وهو يحذرهم من المساس به.. لقد سبقتهم أمم كفرت برسلها، فأهلكها الله: قوم نوح، قوم عاد، قوم ثمود.. لماذا نذهب بعيدا؟ إن تاريخ مصر فيه الدليل على صحة قوله، لقد جاء يوسف بالبينات فشك فيه الناس ثم آمنوا به بعد أن كادت النجاة تفلت منهم، ما الغرابة في إرسال الله للرسل؟ إن التاريخ القديم ينبغي أن يكون موضع نظر.. لقد انتصرت القلة المؤمنة حين أصبحت مؤمنة على الكثرة الكافرة.. وسحق الله تعالى الكافرين.. أغرقهم بالطوفان، وصعقهم بالصرخة.. أو خسف بهم الأرض.. ماذا ننتظر إذن؟ ومن أين نعلم أن وقوفنا وراء الفرعون لن يضيعنا ويهلكنا جميعا؟ كان حديث الرجل المؤمن المثقف ينطوي على عديد من التحذيرات المخيفة.. ويبدو أنه اقنع الحاضرين بأن فكرة قتل موسى فكرة غير مأمونة العواقب.. وبالتالي فلا داعي لها.. بعدها حاول أن يستلفتهم إلى الحق الذي جاء به موسى.. إنه ينتقل من التلميح إلى التصريح.. إلى الجهر بالحق: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ انتهى الأمر وانكشف إيمان الرجل المؤمن.. انكشف أنه مؤمن لم يعد يكتم إيمانه.. أعلن إيمانه في نهاية الحديث صراحة.. قال: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ أنهى الرجل المؤمن حديثه بهذه الكلمات الشجاعة.. بعدها انصرف.. انصرف فتحول الجالسون من موسى إليه.. بدءوا يمكرون له. بدءوا يتحدثون عما صدر منه.. أيندرج هذا تحت الخيانة العظمى للنظام أم لا يندرج..؟ لقد اتهم فرعون ووزرائه بأنهم سيهلكون في النار. نحسب أن الله أرسل هذا الرجل المؤمن من رجال فرعون، ليشغل فرعون عن موسى.. يكشف سياق النص القرآني أن هذا الرجل يمثل المثقفين المصريين الذين كانوا يعرفون التاريخ ويحللونه، ويملكون قدرة على ربط الأحداث ومعرفة الأسباب واستخلاص النتائج.. ثم تهديهم عقولهم إلى الحق.. وقد انشغل فرعون بهذا الرجل عن موسى فترة. كان الرجل المؤمن من أهل فرعون. قريبه وأحد رجال دولته، وإيمانه يجعل قصر الفرعون يبدو منقسما بالنسبة لموسى.. وهو يعني انتصارا عظيما لموسى.. وقتله قد يثير طبقة المثقفين المصريين بوصفه واحدا منهم وهكذا واجه فرعون مشكلته المستحيلة الحل.. إن قتل الرجل المؤمن غير مأمون العاقبة.. والإبقاء عليه غير مأمون العاقبة.. وراحوا يمكرون له ويدبرون.. وتدخلت عناية الله تعالى: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ انشغل فرعون بهذه القضية الجديدة.. غير أنه لم يتنازل عن كبريائه ويرسل بني إسرائيل مع موسى. ظل على عذابه وتسخيره لهم واستحيائه للنساء وقتله للأبناء. وشاء الله تعالى أن يشدد على آل فرعون.. ابتلاء لهم وتخويفا، ولكي يصرفهم عن الكيد لموسى والرجل المؤمن، وإثباتا لنبوة موسى وصدقه في الوقت نفسه. وهكذا سلط على المصريين أعوام الجدب.. أجدبت الأرض وشح النيل ونقصت الثمار وارتفعت الأسعار وجاع الناس، واشتد القحط وأخذ بخناق الأمة المصرية.. ومن المعروف أن هذه العقوبة تصيب الناس دائما حين ينصرفون عن الإيمان والتقوى.. يقول الله تعالى في محكم كتابه في سورة الأعراف: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ انطبق القانون القديم على أهل مصر لسببين: وقوفهم موقف المتفرج من قتل السحرة.. ووقوفهم موقف المتفرج من طغيان حاكمهم.. ومن المدهش أن قوم فرعون أرجعوا هذه الجدب والقحط والجوع إلى سبب غريب. قالوا إنهم تشاءموا من موسى.. إن ما أصابهم من جوع وفقر ونقص في الثمرات أصابهم بسبب وجود موسى بينهم.. واشتد فقرهم واشتد بعدهم عن إدراك الحق، فاعتقدوا أن سحر موسى هو المسئول عما أصابهم من قحط. وصور لهم حمقهم أن هذا الجدب الذي أصاب أرضهم، آية جاء بها موسى ليسحرهم بها، وهي آية لن يؤمنوا بها. ومن المفهوم ضمنا أن هذه لم تكن أفكار العامة من الناس، إنما هي أفكار الطبقة الحاكمة التي أشاعت هذا الرأي، وروجت له، فردده الناس بعد ذلك.. ولقد استتبع بقاء الصراع وامتداده، أن يعاقبهم الله تعالى ويشدد عليهم أكثر وأكثر.. قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ شدد الله عليهم مع اختلاف الأساليب لعلهم يرجعون إلى الله، ويطلقون بني إسرائيل ويرسلونهم معه. أرسل عليهم الطوفان، بعد سنوات الجدب العديدة.. جاءت سنة فاض فيها النيل وأغرق الأرض فاستحالت الزراعة.. وبعد أن كان عذابهم وجوعهم ينبعان من قلة المياه، نبع عذابهم وجوعهم هذه المرة من زيادة المياه.. وهرعوا إلى موسى.. كانت المشكلة تستدعي تدخله.. قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ ودعا موسى ربه فكشف عنهم عذاب إغراق الأرض.. توقف تدفق المياه وشربت الأرض ماءها وعادت صالحة للزراعة.. وطالبهم موسى بتحقيق وعدهم له بإطلاق سراح بني إسرائيل، فلم يجيبوه. ووقعت آية الجراد.. أرسل الله أسرابا من الجراد حطت على الزروع والثمار، فلما طارت عنها كانت الزروع والثمار قد اختفت. أكل الجراد طعام المصريين فهرعوا إلى موسى يسألونه أن يدعو ربه ليكشف عنهم هذا العذاب.. وسوف يرسلون معه بني إسرائيل هذه المرة.. ودعا موسى ربه فكشف عنهم العذاب ورحل الجراد عائدا من حيث جاء.. وعادوا يزرعون الأرض.. وطالبهم موسى بإطلاق سراح بني إسرائيل فراحوا يماطلونه.. حتى تأكد أنهم ليسوا جادين في وعودهم له. ووقعت آية القمل.. انتشر القمل بما يحمله من أمراض.. وتكرر لجوءهم إلى موسى وتكررت وعودهم له وتكرر دعاؤه لله.. وتكرر إخلافهم لوعدهم. ثم وقعت آية الضفادع.. امتلأت الأرض بالضفادع فجأة.. كانت تتواثب في أطعمة المصريين وتشاركهم بيوتهم وتزعجهم أعظم الإزعاج.. وذهبوا إلى موسى ووعدوه فسأل ربه فكشف عنهم فأخلفوا وعدهم. ثم وقعت آخر الآيات وهي الدم. تحولت مياه النيل إلى دم لا يستطيع أن يسيغه أحد. ونلاحظ أن الآيات السابقة كانت آيات من النوع المتوقع في بيئة زراعية تقوم حياتها على النهر.. فيضا أو إمساكا. إن نقص مياه النيل أو زيادته أو هجوم الجراد أو القمل أو الضفادع.. هذه كلها أمور ليست جديدة على المصريين.. الجديد هو وقوعها بهذا العنف المفاجئ واختفاؤها بنفس العنف المفاجئ.. أما آخر الآيات فكانت من لون لم تألفه البيئة المصرية.. كانت آية أكبر من كل ما سبقها من الآيات.. تحولت مياه النيل إلى دم.. وتم هذا التحول بالنسبة للمصريين وحدهم، فكان موسى وقومه يشربون مياها عادية وكان أي مصري يملأ كأسه ليشرب، يكتشف أن كأسه مملوءة بالدم. واهتز المصريون كما اهتز قصر الفرعون أمام هذه الآية الرهيبة الجديدة. وهرعوا إلى موسى يتوسلون إليه أن يدعو ربه وسوف يطلقون سراح الإسرائيليين هذه المرة. ودعا موسى ربه فانكشف العذاب عن المصريين، ورغم ذلك رفض قصر الفرعون أن يسمح له باصطحاب قومه والرحيل. على العكس من ذلك.. اشتد الفرعون صلابة وقحة.. وأعلن فرعون في قومه أنه إله.. أليس له ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحته، أعلن أن موسى ساحر كذاب.. ورجل فقير لا يرتدي أسورة واحدة من الذهب. قال تعالى في سورة الزخرف: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ انظر إلى التعبير القرآني: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ). استخف بعقولهم.. واستخف بحريتهم.. واستخف بمستقبلهم.. واستخف بآدميتهم.. فأطاعوه.. أليست هذه طاعة غريبة.. تنمحي الغرابة حين نعلم أنهم كانوا قوما فاسقين. إن الفسق يصرف الإنسان عن الالتفات لمستقبله ومصالحه وأموره، ويورده الهلاك. وذلك ما وقع لقوم فرعون. يقول تعالى: فَلَمَّا
آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ
فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا
لِلْآخِرِينَ بدا واضحا أن فرعون لن يؤمن لموسى. ولن يكف عن تعذيبه لبني إسرائيل، ولن يكف عن استخفافه بقومه.. هنالك دعا موسى وهارون على فرعون. وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ وجاء الإذن لموسى بالخروج من مصر واصطحاب قومه معه. وكان موقف قومه غريبا.. لم يؤمن كل قومه بعد.. قال تعالى في سورة يونس: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ انتهى الأمر وقرر الله وضع حد لجرائم فرعون بعد أن أملى له. صدر الأمر لموسى بالخروج. واستأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج إلى عيد لهم، فأذن لهم وهو كاره. وتجهزوا للخروج وتأهبوا له، وحملوا معهم حليهم واستعاروا من حلي المصريين شيئا كثيرا.. وجاء الليل عليهم، فتقدمهم موسى وسار بهم نحو البحر الأحمر قاصدا بلاد الشام. وتحركت رسل فرعون ومخابراته، وبلغت الأخبار فرعون أن موسى قد صحب قومه وخرج. وأرسل فرعون أوامره في مدن المملكة لحشد جيش عظيم.. وساق فرعون في أسباب جمع الجيش هذه الحجة الغريبة.. قال بالنص.. كما قال عز وجل في كتابه: وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ لقد غاظني موسى.. غاظني شخصيا.. وعددهم قليل.. وغيظنا عليهم كبير.. وهي الحرب إذن. كان فرعون طاغية صريحا.. لم يحاول إخفاء نياته وراء كلمات كبيرة فيقول مثلا إن أمن المملكة مهدد، أو إن النظام الاقتصادي يمكن أن يتعرض للانهيار لو خرجت كل هذه الأيدي العاملة الرخيصة.. أبدا.. لم يقل ذلك واكتفى بالتصريح بأنه مغتاظ.. لقد غاظه موسى.. وهذا سبب كاف لحشد الجيش. وصدق الناس فرعون للمرة الألف بعد كذبه.. لم يعارضه أحد، ولم يستلفت نظره أحد إلى تفاهة السبب الذي جمع له الجيش.. كان كبرياء فرعون الشخصي هو الأمر الوارد.. وكان يكفي تماما. تحرك جيش فرعون في أبهته وعظمته وسلاحه وخرج وراء موسى.. جلس فرعون في مركبته الحربية يتأمل الجنود ويبتسم.. ماذا لو أنه فعل ذلك من أول لحظة وانتهى من موسى وقتله..؟ على أي حال.. ها هو ذا في طريقه لقتل موسى وإنهاء المشكلة كلها.. وقف موسى أمام البحر الأحمر.. من بعيد.. ثار غبار قوي يشي بأن جيش الفرعون يقترب.. بعدها ظهرت أعلام الجيش.. وامتلأ قوم موسى بالرعب. كان الموقف حرجا وخطيرا.. إن البحر أمامهم والعدو ورائهم وليست أمامهم فرصة واحدة للقتال.. إنهم مجموعة من النساء والأطفال والرجال غير المسلحين.. سيذبحهم فرعون عن آخرهم.. صرخت
بعض الأصوات من قوم موسى: سيدركنا فرعون. وتقدم موسى قومه وسار بهم حتى عبر البحر.. كانت المعجزة هائلة.. إن الأمواج كانت تصطرع وتعلو وتهبط حتى إذا جاءت إلى الطريق بدت كأن يدا خفية تمنعها من أن تغرقه أو حتى تبلله.. انتهى عبور موسى البحر مع قومه.. ووصل فرعون إلى البحر.. شاهد هذه المعجزة.. شاهد في البحر طريقا يابسا يشقه نصفين.. أحس فرعون بالخوف ولكنه زاد في عناده وأمر عربته الحربية بالتقدم فتقدم الجيش وراءه.. حين انتهى موسى من عبور البحر.. التفت إلى البحر وأراد أن يضربه بعصاه ليعود كما كان.. ولكن الله أوحى إليه أن يترك البحر على حاله. كان موسى يريد أن يفصل البحر بينه وبين فرعون لينجو قومه.. ولو أنه ضرب البحر بعصاه فعاد كما كان لنجا موسى ونجا فرعون.. وكان الله تعالى قد شاء إغراق الفرعون.. ولهذا أمر موسى أن يترك البحر على حاله.. أوحى إليه سبحانه: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ وصل فرعون بجيشه إلى منتصف البحر.. تعدى منتصفه وكاد يصل إلى الضفة الأخرى.. وأصدر الله تعالى أمره إلى جبريل فحرك جبريل الموج.. انطبقت الأمواج على فرعون وجيشه.. وغرق فرعون وجيشه.. غرق العناد ونجا الإيمان بالله.. ورأى فرعون وهو يغرق مقعده من النار.. أدرك وقد انكشف عنه الحجاب، ودخل في سكرات الموت، أن موسى كان صادقا وأنه ضيع نفسه بمعاداته وحربه.. وآمن فرعون. قال تعالى: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وقد كانت توبته غير مقبولة ولا صحيحة. فهي توبة تجيء بعد معاينة العذاب والدخول في الموت. قال له جبريل: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ). بمعنى لا توبة.. انتهى وقت التوبة المحدد لك وهلكت. انتهى الأمر ولا نجاة لك.. سينجو جسدك وحده.. ستموت وتقذف الأمواج جثتك إلى الشاطئ.. لتكون آية لمن خلفك. فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ كان ما وقع لفرعون تحقيقا لسنة أزلية خلت في عباد الله.. لا ينفع الإيمان بعد العذاب.. قال تعالى في سورة غافر: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ قص الله تعالى موقف المواجهة بين فرعون وموسى في قوله تعالى في سورة الشعراء: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أسدل الستار على طغيان الفرعون. ولفظت الأمواج جثته إلى الشاطئ. لا نعرف على أي شاطئ لفظت الأمواج جثة الرجل الذي يدعي الألوهية. الرجل الذي لم يعارضه أحد! أغلب الظن أن الأمواج لفظت جثته على الشاطئ الغربي.. فرآه المصريون وأدركوا أن إلههم الذي عبدوه وأطاعوه كان عبدا لا يقدر على دفع الموت عن رقبته. بعد ذلك.. نزل الستار تماما عن المصريين.. لا يحدثنا القرآن الكريم عما فعلوه بعد سقوط نظام الفرعون وغرقه مع جيشه.. لا يحدثنا عن ردود فعلهم بعد أن دمر الله ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ويشيدون. يسكت السياق القرآني عنهم.. ويستبعدهم تماما من التاريخ والأحداث.
|
This page was done by E.Youusef Albaba |