موسى وهارون عليهما السلام
|
موسى وهارون عليهما السلام الجزء الثالث ويلتفت السياق إلى موسى وهارون.. وماذا كان من أمر بني إسرائيل معهما.. لقد مات فرعون مصر.. غرق أمام عيون المصريين وبني إسرائيل.. ورغم موته، فقد ظل أثره باقيا في نفوس المصريين وبني إسرائيل. من الصعب على سنوات القهر الطويلة والذل المكثف أن تمر على نفوس الناس مر الكرام. لقد صنع فرعون في نفوس بني إسرائيل شيئا سندركه من الآيات بعد قليل.. لقد عودهم الذل لغير الله.. كسر في نفوسهم شيئا من الداخل. هزم أرواحهم، فانطووا شأن المهزومين على الإعجاب بمن هزمهم.. أفسد فطرتهم فعذبوا موسى عذابا شديدا بالعناد والجهل.. كانت معجزة شق البحر لم تزل طرية في أذهانهم. كانت رمال البحر رطبة لم تزل عالقة بنعال بني إسرائيل، حين مروا على قوم يعبدون الأصنام.. وبدلا من أن يظهروا استيائهم لهذا الظلم للعقل، ويحمدوا الله أن هداهم للإيمان.. بدلا من ذلك التفتوا إلى موسى وطلبوا منه أن يجعل لهم إلها يعبدونه مثل هؤلاء الناس.. وليس هناك أحد أحسن من أحد.. أدركتهم الغيرة لمرأى الأصنام، ورغبوا في مثلها، وعاودهم الحنين لأيام الشرك القديمة التي عاشوها في ظل فرعون. واستلفتهم موسى إلى جهلهم هذا. قال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ سار موسى بقومه في سيناء.. وهي صحراء ليس فيها شجر يقي من الشمس، وليس فيها طعام ولا ماء.. وأدركتهم رحمة الله فساق إليهم المن والسلوى وظللهم الغمام.. والمن مادة يميل طعمها إلى الحلاوة وتفرزها بعض أشجار الفاكهة، حملت الرياح إليهم هذه المادة مغلفة في أوراق الشجر. وساق الله إليهم السلوى، وهو نوع من أنواع الطيور يقال إنه (السمان). وحين اشتد بهم الظمأ إلى الماء، وسيناء مكان يخلو من الماء، ضرب لهم موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من المياه.. وكان بنو إسرائيل ينقسمون إلى 12 سبطا. فأرسل الله المياه لكل مجموعة. ورغم هذا الإكرام والحفاوة، تحركت في النفوس التواءاتها المريضة.. واحتج قوم موسى بأنهم سئموا من هذا الطعام، واشتاقت نفوسهم إلى البصل والثوم والفول والعدس، وكانت هذه الأطعمة أطعمة مصرية تقليدية.. وهكذا سأل بنو إسرائيل نبيهم موسى أن يدعو الله ليخرج لهم من الأرض هذه الأطعمة. وعاد موسى يستلفتهم إلى ظلمهم لأنفسهم، وحنينهم لأيام هوانهم في مصر، وكيف أنهم يتبطرون على خير الطعام وأكرمه، ويريدون بدله أدنى الطعام وأسوأه. قال تعالى في سورة البقرة: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ سار موسى بقومه في اتجاه البيت المقدس. أمر موسى قومه بدخولها وقتال من فيها والاستيلاء عليها. ها قد جاء امتحانهم الأخير.. بعد كل ما وقع لهم من المعجزات والآيات والخوارق.. جاء دورهم ليحاربوا –بوصفهم مؤمنين- قوما من عبدة الأصنام. ورفض قوم موسى دخول الأراضي المقدسة. وحدثهم موسى عن نعمة الله عليهم. كيف جعل فيهم أنبياء، وجعلهم ملوكا يرثون ملك فرعون، وآتاهم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ. وكان رد قومه عليه أنهم يخافون من القتال. قالوا: إن فيها قوما جبارين، ولن يدخلوا الأرض المقدسة حتى يخرج منها هؤلاء. وانضم لموسى وهارون اثنان من القوم. تقول كتب القدماء إنهم خرجوا في ستمائة ألف.. لم يجد موسى من بينهم غير رجلين على استعداد للقتال.. وراح هذان الرجلان يحاولان إقناع القوم بدخول الأرض والقتال.. قالا: إن مجرد دخولهم من الباب سيجعل لهم النصر.. ولكن بني إسرائيل جميعا كانوا يتدثرون بالجبن ويرتعشون في أعماقهم.. مرة أخرى تعاودهم طبيعتهم التي عاودتهم قبل ذلك حين رأوا قوما يعكفون على أصنامهم.. فسدت فطرتهم، وانهزموا من الداخل، واعتادوا الذل، فلم يعد في استطاعتهم أن يحاربوا.. وإن بقي في استطاعتهم أن يتوقحوا على نبي الله موسى وربه.. وقال قوم موسى له كلمتهم الشهيرة: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ هكذا بصراحة وبلا التواء. أدرك موسى أن قومه ما عادوا يصلحون لشيء. مات الفرعون ولكن آثاره في النفوس باقية يحتاج شفاؤها لفترة طويلة. عاد موسى إلى ربه يحدثه أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه.. دعا موسى على قومه أن يفرق الله بينه وبينهم.. وأصدر الله تعالى حكمه على هذا الجيل الذي فسدت فطرته من بني إسرائيل.. كان الحكم هو التيه أربعين عاما.. حتى يموت هذا الجيل أو يصل إلى الشيخوخة.. ويولد بدلا منه جيل آخر، جيل لم يهزمه أحد من الداخل، ويستطيع ساعتها أن يقاتل وأن ينتصر. قال تعالى في سورة المائدة: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23) قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ بدأت أيام التيه.. بدأ السير في دائرة مغلقة.. تنتهي من حيث تبدأ، وتبدأ من حيث تنتهي، بدأ السير إلى غير مقصد.. ليلا ونهارا وصباحا ومساء. دخلوا البرية عند سيناء.. عاد موسى إلى نفس المكان الذي التقى فيه بكلمات الله أول مرة.. نزل بنو إسرائيل حول الطور وصعد موسى الجبل وحده.. وهناك أنزلت عليه التوراة.. وكلمه ربه تعالى.. قبل أن يصعد موسى إلى ميقات ربه، استخلف أخاه هارون في قومه. تركه مسئولا عنهم ومضى إلى ربه. قال تعالى في سورة الأعراف: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ قال القدماء إن موسى صام ثلاثين يوما ليلا ونهارا بغير أن يذوق طعاما قط، ثم كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم، فتناول من نبات الأرض فمضغه، فقال له ربه: لماذا أفطرت؟ وهو أعلم بما كان. قال: أي رب، كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح. قال أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك؟ ارجع فصم عشرة أيام ثم ائتني. ففعل عليه السلام ما أمره ربه به. ونحن لا نعرف –معرفة يقينية- لماذا صام موسى أربعين ليلة بدلا من ثلاثين. كل ما نعرفه أن الله تعالى قد زاد على الثلاثين ليلة عشر ليال أخرى من الصوم وأنزلت التوراة على موسى. أنزلت عليه الوصايا العشر. وكانت هذه الوصايا العشر هي: 1-
الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له. قال علماء السلف إن مضمون هذه الوصايا العشر قد تضمنته آيتان من القرآن، هما قوله تعالى في سورة الأنعام: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يقص الله تبارك وتعالى علينا ماذا كان من أمر موسى حين ذهب لميقات ربه. كان موسى بصومه –أربعين ليلة- يقترب من ربه أكثر.. وكان موسى بتكليم الله له يزداد حبا في ربه أكثر.. ونحن لا نعرف أي مشاعر كانت تجيش في قلب موسى عليه الصلاة والسلام حين سأل ربه الرؤية. أحيانا كثيرة يدفع الحب البشري الناس إلى طلب المستحيل.. فما بالك بالحب الإلهي، وهو أصل الحب..؟ إن عمق إحساس موسى بربه، وحبه لخالقه، واندفاعه الذي لم يزل يميز شخصيته.. دفعه هذا كله إلى أن يسأل الله الرؤية. قال تعالى في سورة الأعراف: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ هكذا باندفاع العاشقين الكبار سأل موسى ربه ما سأل. وجاءه رد الحق عز وجل: قَالَ لَن تَرَانِي ولو أن الله تبارك وتعالى قالها ولم يزد عليها شيئا، لكان هذا عدلا منه سبحانه، غير أن الموقف هنا موقف حب الهي من جانب موسى. موقف اندفاع يبرره الحب ولهذا أدركت رحمة الله تعالى موسى. أفهمه أنه لن يراه، لأن أحدا من الخلق لا يصمد لنور الله.. أمره أن ينظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف يراه. قال تعالى: وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا لا يصمد لنور الله أحد. أدرك موسى هذه الحقيقة وعاينها بنفسه. والصعق هو الموت أو الإغماء. ونحن لا نعرف الفترة التي قضاها موسى غائبا عن حياته أو وعيه.. غير أنه حين أفاق.. فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ وقف المفسرون القدماء كثيرا أمام هذه الآيات. تساءلوا مثلا: كيف يطلب موسى رؤية الله مع علمه بأنها غير ممكنة؟ وتنازعوا في ذلك فذهب المعتزلة إلى رأي، وذهب أهل السنة إلى رأي، وكان مدار الحديث كله كيف لا يعلم النبي وهو أقرب خلق الله إليه أن رؤية الله مستحيلة.. وهكذا انصرفنا عن عمق الآيات البعيد، ورحنا نبحث حول جزئيات لا تغني ولا تسمن.. أعتقد أن هذا الموقف موقف موسى يمثل قمة من قمم الحب، وعمقا من أعماق الوجد –لا مثيل له في كل سيرة موسى. نحن أمام ذروة الحب لله.. والمحب لا يريد غير الرؤية، ورؤية الله عز وجل مستحيلة، هذا هو منطق العقل والأعصاب، لكن.. متى كان الحب يعبأ بالمنطق أو يستمع للأعصاب..؟! وهكذا يندفع موسى إلى التجربة وهي تجربة قام بها بدلا عنا جميعا.. كان أجرأنا في الطلب، وكان أسبقنا إلى الصعق، وأثبت لنا بجسده الكريم وروحه الطاهر أن أحدا لا يصمد لنور الله.. ها هو ذا يفيق فيمجد الله ويتوب إليه ويستغفره.. قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من أي شيء كان موسى يتوب..؟ قال الصوفية كان يتوب من اندفاعة عاشق عظيم سأل المحال وهو يعلم أنه محال.. وذلك تفسير مقنع.. يؤيد ذلك سياق الآيات.. انظر إلى آيات الله وكيف يستلفته إلى ما أنعم عليه من نعم، قال تعالى لموسى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ وقف كثير من المفسرين أمام قوله تعالى لموسى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي وأجريت مقارنات بينه وبين غيره من الأنبياء. فقيل إن هذا الاصطفاء كان خاصا بعصره وحده، ولا ينسحب على العصر الذي سبقه لوجود إبراهيم فيه، وإبراهيم خير من موسى، أيضا لا ينطبق هذا الاصطفاء على العصر الذي يأتي بعده، لوجود محمد بن عبد الله فيه، وهو أفضل منهما. ونحب أن نبتعد عن هذا الجدال كله. لا لأننا نعتقد أن كل الأنبياء سواء.. إذا إن الله سبحانه وتعالى يحدثنا أنه فضل بعض النبيين على بعض، ورفع درجات بعضهم على البعض. غير أن هذا التفضيل ينبغي أن يكون منطقة محرمة علينا، ولنقف نحن في موقع الإيمان بجميع الأنبياء لا نتعداه. ولنؤد نحوهم فروض الاحترام على حد سواء. لا ينبغي أن يخوض الخاطئون في درجات المعصومين المختارين من الله.. ليس من الأدب أن نفاضل نحن بين الأنبياء.. الأولى أن نؤمن بهم جميعا. انتهى ميقات موسى مع ربه تعالى.. وعاد غضبان أسفا إلى قومه.. لم يكن في الوجود كله إنسان في مثل رضاه.. لكنه يعلم من ربه أنباء تسوءه فينقلب إلى قومه غضبان أسفا.. قال تعالى في سورة طه: وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا انحدر موسى من قمة الجبل وهو يحمل ألواح التوراة، قلبه يغلي بالغضب والأسف. نستطيع أن نتخيل انفعال موسى وثورته وهو يحث خطاه نحو قومه. لم يكد موسى يغادر قومه إلى ميقات ربه.. حتى وقعت فتنة السامري. وتفصيل هذه الفتنة أن بني إسرائيل حين خرجوا من مصر، صحبوا معهم كثيرا من حلي المصريين وذهبهم، أخذوه للتمتع به في احتفالهم الذي ادعوه، ثم نجوا بعد معجزة شق البحر، وانطبق البحر على فرعون وجنوده فغرقوا، وصار ما معهم من الذهب ملكا لهم.. ويبدو أن هارون عليه السلام، أدرك أن هذا الذهب ليس من حقهم، فأخذه ودفنه في الأرض.. لم يكن القوم في حاجة إليه.. كانوا يعيشون في التيه.. يسيرون وسط صحراء لا ينفعهم فيها الذهب. حفر هارون شقيق موسى حفرة وألقى فيها الذهب وأهال عليه التراب. ورآه السامري وهو يدفن الذهب فاستخرجه بعد ذلك وصهره، وصنع منه تمثالا لعجل يشبه العجل أبيس، معبود المصريين، وكان السامري فيما يبدو نحاتا محترفا أو صائغا سابقا، فصنع العجل مجوفا من الداخل، ووضعه في اتجاه الريح، بحيث يدخل الهواء من فتحته الخلفية ويخرج من أنفه فيحدث صوتا يشبه خوار العجول الحقيقية.. ويقال إن سر هذا الخوار، أن السامري كان قد أخذ قبضة من تراب سار عليه جبريل عليه السلام حين نزل إلى الأرض في معجزة شق البحر.. أي أن السامري أبصر بما لم يبصروا به، فقبض قبضة من أثر الرسول –جبريل عليه السلام- فوضعها مع الذهب وهو يصنع منه العجل.. وكان جبريل لا يسير على شيء إلا دبت فيه الحياة.. فلما أضاف السامري التراب إلى الذهب، ثم صنع منه العجل، خار العجل كالعجول الحقيقية.. هذه قصة السامري التي ألقاها لموسى، ونعتقد أنه كاذب.. إن كفره يرجح عندنا كذبه. نعلم الآن أن التراب إذا أضيف إلى الذهب وصهر، انفصل التراب من الذهب وترك تجويفا في مكان انفصاله. وأغلب الظن أن السامري استخدم هذا التراب، كأي تراب آخر، في صنع تجويف داخل العجل، بحيث تحول التمثال إلى تمثال له صوت.. بعد ذلك، خرج السامري على بني إسرائيل بما صنعه.. سألوه:
ما هذا يا سامري؟ وهبت موجة من الرياح فدخلت من دبر العجل الذهب وخرجت من فمه فخار العجل. وعبد بنو إسرائيل هذا العجل.. لعل دهشة القارئ تثور لهذه الفتنة.. كيف يمكن الاستخفاف بعقول القوم لهذه الدرجة..؟! لقد وقعت لهم معجزات هائلة.. فكيف ينقلبون إلى عبادة الأصنام في لحظة..؟ تزول هذه الدهشة لو نظرنا في نفسية القوم الذين عبدوا العجل. لقد تربوا في مصر، أيام كانت مصر تعبد الأصنام وتقدس فيما تقدس العجل أبيس، وتربوا على الذل والعبودية، وانكسر داخل أنفسهم شيء، التوى في فطرتهم شيء، ومرت عليهم معجزات الله فصادفت نفوسا تالفة الأمل. لم يعد هناك ما يمكن أن يصنعه لهم أحد. إن كلمات الله لم تعدهم إلى الحق، كما أن المعجزات الحسية لم تقنعهم بصدق الكلمات، ظلوا داخل أعماقهم من عبدة الأوثان. كانوا وثنيين مثل سادتهم المصريين القدماء. ولهذا السبب انقلبوا إلى عبادة العجل.. ولم يكن انقلابهم هذا مفاجأة لنا نحن أهل هذا الزمان، فإنهم بعد خروجهم من معجزة شق البحر شاهدوا قوما يعبدون الأصنام فسألوا موسى أن يجعل لهم آلهة يعبدونها مثل هؤلاء القوم. المسألة إذن قديمة ومزمنة.. والرغبة في عبادة الأصنام، هي نفسها عبادة الأصنام، ولقد كان ككل ما فعله السامري، أنه استغل حنين القوم إلى عبادة الأوثان، استغل حاجة نفسية شبه عامة وحققها لهم حين قدم إليهم عجله. وأختار أن يكون العجل ذهبا لأنه يعلم ضعف بني إسرائيل إزاء الذهب عموما. وهكذا انتشرت فتنة السامري، وفوجئ هارون عليه الصلاة والسلام يوما بأن بني إسرائيل يعبدون عجلا من الذهب. انقسموا إلى قسمين: الأقلية المؤمنة أدركت أن هذا هراء. والأغلبية الكافرة طاوعت حنينها لعبادة الأوثان. ووقف هارون وسط قومه وراح يعظهم. قال لهم: إنكم فتنتم به، هذه فتنة، استغل السامري جهلكم وفتنكم بعجله.. ليس هذا ربكم ولا رب موسى. وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ورفض عبدة العجل موعظة هارون. كانوا مجموعة الذين مرت عليهم الكلمات مرور النسيم بالحجارة. لم تفعل فيها شيئا .. وعاد هارون يعظهم ويذكرهم بمعجزات الله التي أنقذهم بها، وتكريمه ورعايته لهم، فأصموا آذانهم ورفضوا كلماته، واستضعفوه وكادوا يقتلونه، وأنهوا مناقشة الموضوع بتأجيله حتى عودة موسى.. كان واضحا أن هارون أكثر لينا من موسى، لم يكن يهابه القوم للينه وشفقته. وخشي هارون أن يلجأ إلى القوة ويحطم لهم صنمهم الذي يعبدونه فتثور فتنة بين القوم. ويحدث ما يشبه الحرب الأهلية. آثر هارون تأجيل الموضوع إلى أن يحضر موسى. كان يعرف أن موسى بشخصيته القوية، يستطيع أن يضع حدا لهذه الفتنة دون إراقة دماء. واستمر القوم يرقصون حول العجل.. كان السامري –لعنه الله تعالى- هو صاحب هذه الفتنة القديمة.. فتنة الرقص والتواجد حول الأوثان، وهي فتنة لم تزل مظاهرها حية إلى اليوم رغم اندثار عبادة الأوثان، يقوم بها الناس في زماننا بحسن نية دون أن يدركوا أصلها القديم وكونها ديانة الكفار وعباد العجل. أورد القرطبي في الجزء الحادي عشر في تفسيره لفتنة السامري.. هذه المسألة.. قال: "سئل الإمام أبو بكر الطرطوشي: ما يقول سيدنا الفقيه في جماعة من رجال، يكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم.. ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه.. ويحضرون شيئا يأكلونه.. هل الحضور معهم جائز أم لا.. أفتونا مأجورين". أجاب القرطبي عن هذه المسألة نقلا عن أستاذه قال: "مذهب الصوفية (يقصد الراقصين) بطالة وجهالة وضلالة. وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله. وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثهما فأصحاب السامري. لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون. فهو دين الكفار وعباد العجل. وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه وكأنما على رءوسهم الطير من الوقار. فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها. ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم. ولا أن يعينهم على باطلهم. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي واحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين.. وبالله التوفيق". انتهى كلام القرطبي المتصل بهذه المسألة. فتأمل مضاء ذهنه وتقواه، وربطه لبدعة الرقص الصوفي الحديث بعبادة العجل القديم والرقص حوله. انحدر موسى عائدا لقومه فسمع صياح القوم وجلبتهم وهم يرقصون حول العجل.. توقف القوم حين ظهر موسى وساد صمت. صرخ موسى يقول: بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ اتجه موسى نحو هارون وألقى ألواح التوراة من يده على الأرض. كان إعصار الغضب داخل موسى يتحكم فيه الآن تماما. مد موسى يديه وأمسك هارون من شعر رأسه وشعر لحيته وشده نحوه وهو يرتعش. قال موسى: يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي إن موسى يتساءل هل عصى هارون أمره. كيف سكت على هذه الفتنة؟ كيف طاوعهم على البقاء معهم ولم يخرج ويتركهم ويتبرأ منهم؟ كيف سكت عن مقاومتهم أصلا؟ إن الساكت عن الخطأ مشترك فيه بشكل ما. زاد الصمت عمقا بعد جملة موسى الغاضبة. وتحدث هارون إلى موسى. رجا منه أن يترك رأسه ولحيته. بحق انتمائهما لأم واحدة.. وهو يذكره بالأم ولا يذكره بالأب ليكون ذلك أدعى لاستثارة مشاعر الحنو في نفسه. قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي أفهمه أن الأمر ليس فيه عصيان له. وليس فيه رضاء بموقف عبدة العجل. إنما خشي أن يتركهم ويمضي، فيسأله موسى كيف لم يبق فيهم وقد تركه موسى مسؤولا عنهم، وخشي لو قاومهم بعنف أن يثير بينهم قتالا فيسأله موسى كيف فرق بينهم ولم ينتظر عودته. إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي أفهم هارون أخاه موسى برفق ولين أن القوم استضعفوه، وكادوا يقتلونه حين قاومهم. رجا منه أن يترك رأسه ولحيته حتى لا يشمت به الأعداء، ويستخف به القوم زيادة على استخفافهم به. أفهمه أنه ليس ظالما مثلهم عندما سكت عن ظلمهم. قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أدرك موسى أنه ظلم هارون في غضبه الذي أشعلته غيرته على الله تعالى وحرصه على الحق.. أدرك أن هارون تصرف أفضل تصرف ممكن في هذه الظروف.. ترك رأسه ولحيته واستغفر الله له ولأخيه.. التفت موسى لقومه وتساءل بصوت لم يزل يضطرب غضبا: يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي إنه يعنفهم ويوبخهم ويلفتهم بإشارة سريعة إلى غباء ما عملوه. عاد موسى يقول غاضبا أشد الغضب: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ لم تكد الجبال تبتلع أصداء الصوت الغاضب حتى نكس القوم رءوسهم وأدركوا خطأهم.. كان افتراؤهم واضحا على الحق الذي جاء به موسى. أبعد كل ما فعله الله تعالى لهم، ينكفئون على عبادة الأصنام..؟! أيغيب موسى أربعين يوما ثم يعود ليجدهم يعبدون عجلا من الذهب.. أهذا تصرف قوم، عهد الله إليهم بأمانة التوحيد في الأرض؟ التفت موسى إلى السامري بعد حديثه القصير مع هارون.. لقد أثبت له هارون براءته كمسئول عن قومه في غيبته، كما سكت القوم ونكسوا رءوسهم أمام ثورة موسى، لم يبق إلا المسئول الأول عن الفتنة.. لم يبق إلا السامري. تحدث موسى
إلى السامري وغضبه لم يهدأ بعد: قَالَ
فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ لم يناقش موسى، عليه السلام السامري في ادعائه.. إنما قذف في وجهه حكم الحق.. ليس المهم أن يكون السامري قد رأى جبريل، عليه السلام، فقبض قبضة من أثره.. ليس المهم أن يكون خوار العجل بسبب هذا التراب الذي سار عليه فرس جبريل، أو يكون الخوار بسبب ثقب اصطنعه السامري ليخور العجل.. المهم في الأمر كله جريمة السامري، وفتنته لقوم موسى، واستغلاله إعجاب القوم الدفين بسادتهم المصريين، وتقليدهم لهم في عبادة الأوثان.. هذه هي الجريمة التي حكم فيها موسى، عليه السلام، بحكمه المزدوج: قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا حكم موسى على السامري بالوحدة في الدنيا.. يقول بعض المفسرين: إن موسى دعا على السامري بأن لا يمس أحدا، معاقبة له على مسه ما لم يكن ينبغي له مسه.. ونعتقد أن الأمر أخطر كثيرا من هذه النظرة السريعة.. إن السامري أراد بفتنته ضلال بني إسرائيل وجمعهم حول عجله الوثني والسيادة عليهم، وقد جاءت عقوبته مساوية لجرمه، لقد حكم عليه بالنبذ والوحدة. هل مرض السامري مرضا جلديا بشعا صار الناس يأنفون من لمسه أو مجرد الاقتراب منه؟ هل جاءه النبذ من خارج جسده؟ لا نعرف ماذا كان من أمر الأسلوب الذي تمت به وحدة السامري ونبذ المجتمع له.. كل ما نعرفه أن موسى أوقع عليه عقوبة رهيبة، كان أهون منها القتل، فقد عاش السامري منبوذا محتقرا لا يلمس شيئا ولا يمس أحدا ولا يقترب منه مخلوق.. هذه هي عقوبته في الدنيا، ويوم القيامة له عقوبة ثانية، يبهمها السياق لتجيء ظلالها في النفس أخطر وأرعب. نهض موسى بعد فراغه من السامري إلى العجل الذهب وألقاه في النار.. لم يكتف بصهره أمام عيون القوم المبهوتين، وإنما نسفه في البحر نسفا.. تحول الإله المعبود أمام عيون المفتونين به إلى رماد يتطاير في البحر.. ارتفع صوت موسى: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا هذا هو إلهكم، وليس ذلك الصنم الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.. بعد أن نسف موسى الصنم، وفرغ من الجاني الأصلي، التفت إلى قومه، وحكم في القضية كلها فأفهمهم أنهم ظلموا أنفسهم وترك لعبدة العجل مجالا واحدا للتوبة.. وكان هذا المجال أن يقتل من اتبعوا العجل أنفسهم.. قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم كانت العقوبة التي قررها موسى على عبدة العجل مهولة، وتتفق مع الجرم الأصلي. إن عبادة الأوثان إهدار لحياة العقل وصحوته، وهي الصحوة التي تميز الإنسان عن غيره من البهائم والجمادات، وإزاء هذا الإزهاق لصحوة العقل، تجيء العقوبة إزهاقا لحياة الجسد نفسه، فليس بعد العقل للإنسان حياة يتميز بها.. ومن نوع الجرم جاءت العقوبة.. جاءت قاسية ثم رحم الله تعالى وتاب.. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم .. أخيرا.. سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ. تأمل تعبير القرآن الكريم الذي يصور الغضب في صورة كائن يقود تصرفات موسى، ابتداء من إلقائه لألواح التوراة، وشده للحية أخيه ورأسه. وانتهاء بنسف العجل في البحر، وحكمه بالقتل على من اتخذوه ربا. أخيرا سكت عن موسى الغضب. زايله غضبه في الله، وذلك أرفع أنواع الغضب وأجدرها بالاحترام والتوقير.. التفت موسى إلى مهمته الأصلية حين زايله غضبه فتذكر أنه ألقى ألواح التوراة.. وعاد موسى يأخذ الألواح ويعاود دعوته إلى الله. قال تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ وقد استدل بعضهم بقوله: وَفِي نُسْخَتِهَا. على أنها تكسرت، ونحن لا نعرف أكانت الألواح من مادة يجوز عليها الكسر أم لا.. كما ينفي ابن كثير هذا الاستدلال، ويرى أنها بقيت على حالها، ومهما يكن من أمر فقد عاد موسى إلى هدوئه، واستأنف جهاده في الله، وقرأ ألواح التوراة على قومه. أمرهم في البداية أن يأخذوا بأحكامها بقوة وعزم. ومن المدهش أن قومه ساوموه على الحق. قالوا: انشر علينا الألواح فان كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها. فقال موسى: بل اقبلوها بما فيها. فراجعوا مرارا، فأمر الله تعالى ملائكته فرفعت الجبل على رءوسهم حتى صار كأنه غمامة فوقهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوها بما فيها سقط ذلك الجبل عليكم، فقبلوا بذلك، وأمروا بالسجود فسجدوا.. وضعوا خدودهم على الأرض وراحوا ينظرون إلى الجبل فوقهم هلعا ورعبا.. قال تعالى: وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وهكذا أثبت قوم موسى أنهم لا يسلمون وجوههم لله إلا إذا لويت أعناقهم بمعجزة حسية باهرة تلقي الرعب في القلوب وتنثني الأقدام نحو سجود قاهر يدفع الخوف إليه دفعا.. وهكذا يساق الناس بالعصا الإلهية إلى الإيمان.. يقع هذا في طفولة الجنس البشري، وغياب الوعي والنضج الكافيين لقيام الاقتناع العقلي. ولعلنا هنا نشير مرة أخرى إلى نفسية قوم موسى، وهي المسئول الأول عن عدم اقتناعهم إلا بالقوة الحسية والمعجزات الباهرة.. لقد تربى قوم موسى ونشئوا وسط هوان وعسف، أهدرت فيهما إنسانيتهم والتوت فطرته.. ولم يعد ممكنا بعد ازدهار الذل في نفوسهم واعتيادهم إياه، لم يعد ممكنا أن يساقوا إلى الخير إلا بالقوة. لقد اعتادوا أن تسيرهم القوة القاهرة لسادتهم القدامى، ولا بد لسيدهم الجديد (وهو الإيمان) من أن يقاسي الأهوال لتسييرهم، وأن يلجأ مضطرا إلى أسلوب القوة لينقذهم من الهلاك. لم تمر جريمة عبادة العجل دون آثار.. أمر موسى علماء بني إسرائيل وخيارهم أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه.. اختار منهم سبعين رجلا، الخير فالخير، وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم. صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم.. خرج موسى بهؤلاء السبعين المختارين لميقات حدده له الله تعالى.. دنا موسى من الجبل، فإذا عمود من الغمام يتغشى الجبل كله.. دخل موسى في الغمام، وقال للقوم ادنوا فدنوا.. وكلم الله تعالى موسى، وكان موسى إذا كلم الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه أو يطيق احتماله، وضرب الحجاب على موسى وهو يكلم ربه، وسمع السبعون الذين اختارهم موسى.. سمعوا موسى وهو يكلم ربه.. ولعل معجزة كهذه المعجزة تكون الأخير، وتكون كافية لحمل الإيمان إلى القلوب مدى الحياة.. غير أن السبعين المختارين لم يكتفوا بما استمعوا إليه من المعجزة.. إنما طلبوا رؤية الله تعالى.. قالوا سمعنا ونريد أن نرى.. قالوا لموسى ببساطة: يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً هي مأساة تثير أشد الدهشة.. وهي مأساة تشير إلى صلابة القلوب واستمساكها بالحسيات والماديات.. كوفئ الطلب المتعنت بعقوبة صاعقة.. أخذتهم رجفة مدمرة صعقت أرواحهم وأجسادهم على الفور.. ماتوا.. أدرك موسى ما أحدثه السبعون المختارون فملأه الأسى وقام يدعو ربه ويناشده أن يعفو عنهم ويرحمهم، وألا يؤاخذهم بما فعل السفهاء منهم، وليس طلبهم رؤية الله تبارك وتعالى وهم على ما هم فيه من البشرية الناقصة وقسوة القلب غير سفاهة كبرى.. سفاهة لا يكفر عنها إلا الموت.. قد يطلب النبي رؤية ربه، كما فعل موسى، ورغم انطلاق الطلب من واقع الحب العظيم والهوى المسيطر، الذي يبرر بما له من منطق خاص هذا الطلب، رغم هذا كله يعتبر طلب الرؤية تجاوزا للحدود، يجازى عليه النبي بالصعق، فما بالنا بصدور هذا الطلب من بشر خاطئين، بشر يحددون للرؤية مكانا وزمانا، بعد كل ما لقوه من معجزات وآيات..؟ أليس هذا سفاهة كبرى..؟ وهكذا صعق من طلب الرؤية.. ووقف موسى يدعو ربه ويستعطفه ويترضاه.. قال تعالى: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِين (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا هذه كانت كلمات موسى لربه وهو يدعوه ويترضاه.. ورضي الله تعالى عنه وغفر لقومه فأحياهم بعد موتهم، واستمع المختارون في هذه اللحظات الباهرة من تاريخ الحياة إلى النبوءة بمجيء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.. قال تعالى: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ سنلاحظ
طريقة الربط بين الحاضر والماضي في الآية، إن
الله تعالى يتجاوز زمن مخاطبة الرسول في
الآيات إلى زمنين سابقين، هما نزول التوراة
ونزول الإنجيل، ليقرر أنه (تعالى) بشر بمحمد
في هذين الكتابين الكريمين.. نعتقد أن إيراد
هذه البشرى جاء يوم صحب موسى من قومه سبعين
رجلا هم علماء بني إسرائيل وأفضل من فيهم،
لميقات ربه.. يقول
ابن كثير في كتابه قصص الأنبياء، نقلا عن
قتادة.. إن موسى قال لربه: يا
رب إني أجد في الألواح أمة هي خير أمة أخرجت
للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. رب
اجعلهم أمتي. مكث موسى في قومه يدعوهم إلى الله.. ويبدو أن نفوسهم كانت ملتوية بشكل لا تخطئه عين الملاحظة، وتبدو لجاجتهم وعنادهم فيما يعرف بقصة البقرة.. فإن الموضوع لم يكن يقتضي كل هذه المفاوضات بينهم وبين موسى، كما أنه لم يكن يستوجب كل هذا التعنت.. وأصل قصة البقرة أن قتيلا ثريا وجد يوما في بني إسرائيل، واختصم أهله ولم يعرفوا قاتله، وحين أعياهم الأمر لجئوا لموسى، ويبدو أن هذا القتيل كان رجلا له مركزه في بني إسرائيل، ويبدو أن خفاء قتله كان دافعا لشيء يشبه الفتنة، ولجأ بنو إسرائيل لموسى ليلجأ لربه.. ولجأ موسى لربه فأمره أن يأمر قومه أن يذبحوا بقرة.. وكان المفروض هنا أن يذبح القوم أول بقرة تصادفهم.. غير أنهم بدءوا مفاوضتهم باللجاجة.. اتهموا موسى بأنه يسخر منهم ويتخذهم هزوا، واستعاذ موسى بالله أن يكون من الجاهلين ويسخر منهم.. أفهمهم أن حل القضية يكمن في ذبح بقرة.. إن الأمر هنا أمر معجزة، لا علاقة لها بالمألوف في الحياة، أو المعتاد بين الناس.. ليست هناك علاقة بين ذبح البقرة ومعرفة القاتل في الجريمة الغامضة التي وقعت، لكن متى كانت الأسباب المنطقية هي التي تحكم حياة بني إسرائيل؟ إن المعجزات الخارقة هي القانون السائد في حياتهم، وليس استمرارها في حادث البقرة أمرا يوحي بالعجب أو يثير الدهشة.. لكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل.. مجرد التعامل معهم عنت.. تستوي في ذلك الأمور الدنيوية المعتادة، وشؤون العقيدة المهمة.. لا بد أن يعاني من يتصدى لأمر من أمور بني إسرائيل.. وهكذا يعاني موسى من إيذائهم له واتهامه بالسخرية منهم، ثم ينبئهم أنه جاد فيما يحدثهم به، ويعاود أمره أن يذبحوا بقرة، وتعود الطبيعة المراوغة لبني إسرائيل إلى الظهور، تعود اللجاجة والالتواء، فيتساءلون: أهي بقرة عادية كما عهدنا من هذا الجنس من الحيوان؟ أم أنها خلق تفرد بمزية، فليدع موسى ربه ليبين ما هي.. ويدعو موسى ربه فيزداد التشديد عليهم، وتحدد البقرة أكثر من ذي قبل، بأنها بقرة وسط.. ليست بقرة مسنة، وليست بقرة فتية.. بقرة متوسطة.. إلى هنا كان ينبغي أن ينتهي الأمر، غير أن المفاوضات لم تزل مستمرة، ومراوغة بني إسرائيل لم تزل هي التي تحكم مائدة المفاوضات.. والأسئلة الغريبة لم تزل تترى.. ما هو لون البقرة؟ لماذا يدعو موسى ربه ليسأله عن لون هذا البقرة؟ لا يراعون مقتضيات الأدب والوقار اللازمين في حق الله تعالى وحق نبيه الكريم، وكيف أنهم ينبغي أن يخجلوا من تكليف موسى بهذا الاتصال المتكرر حول موضوع بسيط لا يستحق كل هذه اللجاجة والمراوغة.. ويسأل موسى ربه ثم يحدثهم عن لون البقرة المطلوبة.. فيقول أنها بقرة صفراء، فاقع لونها تسر الناظرين.. وهكذا حددت البقرة بأنها صفراء، لونها مشرب بالحمرة، ورغم وضوح الأمر، فقد عادوا إلى اللجاجة والمراوغة.. فشدد الله عليهم كما شددوا على نبيه وآذوه.. عادوا يسألون موسى أن يدعو الله ليبين ما هي، فإن البقر تشابه عليهم، وحدثهم موسى عن بقرة ليست معدة لحرث ولا لسقي، سلمت من العيوب، صفراء لا شية فيها، بمعنى خالصة الصفرة.. انتهت بهم اللجاجة إلى التشديد.. وبدءوا بحثهم عن بقرة بهذه الصفات الخاصة.. أخيرا وجدوها عند يتيم فاشتروها وذبحوها.. وأمسك موسى ذيل البقرة وضرب به القتيل فنهض من موته.. سأله موسى عن قاتله فحدثهم عنه ثم عاد إلى الموت.. وشاهد بنو إسرائيل معجزة إحياء الموتى أمام أعينهم، استمعوا بآذانهم إلى اسم القاتل.. انكشف غموض القضية التي حيرتهم زمنا طال بسبب لجاجتهم وتعنتهم.. قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ (68) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نود أن نستلفت انتباه القارئ إلى سوء أدب القوم مع نبيهم وربهم، ولعل السياق القرآني يورد ذلك عن طريق تكرارهم لكلمة "ربك" التي يخاطبون بها موسى.. وكان الأولى بهم أن يقولوا لموسى، تأدبا، لو كان لا بد أن يقولوا: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) ادع لنا ربنا.. أما أن يقولوا له: . فكأنهم يقصرون ربوبية الله تعالى على موسى.. ويخرجون أنفسهم من شرف العبودية لله.. انظر إلى الآيات كيف توحي بهذا كله.. ثم تأمل سخرية السياق منهم لمجرد إيراده لقولهم: الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ بعد أن أرهقوا نبيهم ذهابا وجيئة بينهم وبين الله عز وجل، بعد أن أرهقوا نبيهم بسؤاله عن صفة البقرة ولونها وسنها وعلاماتها المميزة، بعد تعنتهم وتشديد الله عليهم، يقولون لنبيهم حين جاءهم بما يندر وجوده ويندر العثور عليه في البقر عادة.. ساعتها قالوا له: "الآن جئت بالحق".. كأنه كان يلعب قبلها معهم، ولم يكن ما جاء هو الحق من أول كلمة لآخر كلمة.. ثم انظر إلى ظلال السياق وما تشي به من ظلمهم: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ألا توحي لك ظلال الآيات بتعنتهم وتسويفهم ومماراتهم ولجاجتهم في الحق..؟ هذه اللوحة الرائعة تشي بموقف بني إسرائيل على موائد المفاوضات.. هي صورتهم على مائدة المفاوضات مع نبيهم الكريم موسى.. قاسى موسى من قومه أشد المقاساة، وعانى عناء عظيما، واحتمل في تبليغهم رسالته ما احتمل في سبيل الله.. ولعل مشكلة موسى الأساسية أنه بعث إلى قوم طال عليهم العهد بالهوان والذل، وطال بقاؤهم في جو يخلو من الحرية، وطال مكثهم وسط عبادة الأصنام، ولقد نجحت المؤثرات العديدة المختلفة في أن تخلق هذه النفسية الملتوية الخائرة المهزومة التي لا تصلح لشيء.. إلا أن تعذب أنبيائها ومصلحيها.. وقد عذب بنو إسرائيل موسى عذابا نستطيع –نحن أبناء هذا الزمان- أن ندرك وقعه على نفس موسى النقية الحساسة الكريمة. ولم يقتصر العذاب على العصيان والغباء واللجاجة والجهل وعبادة الأوثان، وإنما تعدى الأمر إلى إيذاء موسى في شخصه.. قال تعالى في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا ونحن لا تعرف كنه هذا الإيذاء، ونستبعد رواية العلماء التي يقولون فيها أن موسى كان رجلا حييا يستتر دائما ولا يحب أن يرى أحد من الناس جسده فاتهمه اليهود بأنه مصاب بمرض جلدي أو برص، فأراد الله أن يبرئه مما قالوا، فذهب يستحم يوما ووضع ثيابه على حجر، ثم خرج فإذا الحجر يجري بثيابه وموسى يجري وراء الحجر عاريا حتى شاهده بنو إسرائيل عاريا وليس بجلده عيب.. نستبعد هذه القصة لتفاهتها، فإنها إلى جوار خرافة جري الحجر بملابسه، لا تعطي موسى حقه من التوقير، وهي تتنافى مع عصمته كنبي.. ونعتقد أن اليهود آذوا موسى إيذاء نفسيا، هذا هو الإيذاء الذي يدمي النفوس الكريمة ويجرحها حقا، ولا نعرف كيف كان هذا الإيذاء، ولكننا نستطيع تخيل المدى العبقري الآثم الذي يستطيع بلوغه بنو إسرائيل في إيذائهم لموسى.. ولعل أعظم إيذاء لموسى، كان نكول بني إسرائيل عن القتال من أجل نشر عقيدة التوحيد في الأرض، أو على أقل تقدير، السماح لهذه العقيدة أن تستقر على الأرض في مكان، وتأمن على نفسها، وتمارس تعبدها في هدوء.. لقد رفض بنو إسرائيل القتال.. وقالوا لموسى كلمتهم الشهيرة: فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وبهذه النفسية حكم الله عليهم بالتيه.. وكان الحكم يحدد أربعين عاما كاملة، وقد مكث بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة، حتى فني جيل بأكمله.. فنى الجيل الخائر المهزوم من الداخل، وولد في ضياع الشتات وقسوة التيه جيل جديد.. جيل لم يتربى وسط مناخ وثني، ولم يشل روحه انعدام الحرية.. جيل لم ينهزم من الداخل، جيل لم يعد يستطيع الأبناء فيه أن يفهموا لماذا يطوف الآباء هكذا بغير هدف في تيه لا يبدو له أول ولا تستبين له نهاية.. إلا خشية من لقاء العدو.. جيل صار مستعدا لدفع ثمن آدميته وكرامته من دمائه.. جيل لا يقول لموسى (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ).. جيل آخر يتبنى قيم الشجاعة العسكرية، كجزء مهم من نسيج أي ديانة من ديانات التوحيد.. أخيرا ولد هذا الجيل وسط تيه الأربعين عاما.. ولقد قدر لموسى.. زيادة في معاناته ورفعا لدرجته عند الله تعالى.. قدر له ألا تكتحل عيناه بمرأى هذا الجيل.. فقد مات موسى عليه الصلاة والسلام قبل أن يدخل بنو إسرائيل الأرض التي كتب الله عليهم دخولها.. قال الله تبارك وتعالى عن موسى في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا وقال تعالى عنه في سورة الأعراف بعد طلب رؤية الله: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ وقال عز وجل عنه في سورة النساء: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان قومه يؤذونه في الله: قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر.. مات هارون قبل موسى بزمن قصير.. واقترب أجل موسى، عليه الصلاة والسلام.. وكان لم يزل في التيه.. قال يدعو ربه: رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر.. أحب أن يموت قريبا من الأرض التي هاجر إليها.. وحث قومه عليها.. ولكنه لم يستطع، ومات في التيه.. ودفن عند كثيب أحمر حدث عنه آخر أنبياء الله في الأرض حين أسرى به.. قال محمد صلى الله عليه وسلم: لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر.. تروي الأساطير عديدا من الحكايات حول موت موسى، وتحكي أنه ضرب ملك الموت حين جاء يستل روحه، ففقأ عينه.. وأمثال هذه الخرافات كثيرة.. ومن المؤسف أن يتداولها علماء لهم احترامهم، وان كانوا لا يميزون بين التراب والذهب، فهم يبدون كحاطب ليل يضم الغث إلى النفيس، ويكوم الهراء على الحقائق حتى لتختفي الحقائق.. مات موسى عليه الصلاة والسلام ميتة طيبة كريمة، أغلب الظن أنه اشتاق إلى رؤية الله عز وجل، وقد دفعه الحب إلى طلبها في حياته، وها هي ذي فرصته تزيد بعد موته.. وإذن يتقبل كليم الله موته بنفس راضية وقلب مطمئن وروح تهفو إلى الحق وتتعجل لقائه وتستبشر.. عليه الصلاة والسلام..
|
This page was done by E.Youusef Albaba |